إعلان

لهذه الأسباب قام السلطان محمد الفاتح بغزو البندقية

محمد الفاتح والحرب الكُبرى مع البندقية

لهذه الأسباب قام السلطان محمد الفاتح بغزو البندقية

يعد السلطان محمد الفاتح من أفضل السلاطين في تاريخ الدولة العثمانية، إن لم يكن أفضلهم على الإطلاق في كلِّ مراحل تاريخهم، وهو بلا جدال أحد أفضل القادة الإسلاميِّين -بل العالميِّين- في كلِّ مراحل التاريخ، وقد حكم السلطان محمد الفاتح ثلاثين سنة (1451- 1481م) خاضت خلالها الجيوش العثمانية مائة وسبعين معركة مع العدو، وقد شارك الفاتح بنفسه في إحدى وثلاثين منها مع أنَّه كان من المشتَهر أن يخرج قائد الدولة على رأس الجيوش المحاربة في معظم معاركها غير أن الدولة العثمانيَّة حينذاك لم تكن تُحارب عدوًّا واحدًا فقط، بل كانت تُحارب عشرين عدوًّا في آنٍ واحد، فكان يستحيل على السلطان محمد الفاتح أن يُشارك في كلِّ الجبهات.

تحالف أعداء العُثمانيين :

بلغت جُمهُوريَّة البُندُقيَّة، مُنذُ نهاية القرن الرابع عشر الميلاديّ، درجةً عظيمةً من القُوَّة في المشرق الإسلامي، بِما أنشأت من تجارةٍ واسعةٍ ومُستعمراتٍ كثيرةٍ ومحطَّاتٍ ومراكز هامَّة في بحاره. ويبدو أنَّ بُرُوز البُندُقيَّة على هذا الشكل، يعود إلى عدم وُجُود مُنافسٍ يُشكِّلُ خطرًا عليها. فغريمتها جنوة قد أصابها الوهن، وأشرفت على الاضمحلال، والإمبراطوريَّة البيزنطيَّة كانت تمر في مراحل شيخوختها، في حين كانت الدولة العُثمانيَّة في بداية نشأتها السياسيَّة، فنظرت إليها البُندُقيَّة بلا مُبالاة. لكن مع تزايد نُموّ هذه الدولة الإسلاميَّة، واتساع فُتُوحاتها، حمل البُندُقيَّة على تغيير نظرتها إليها، إذ خشيت أن تُعرقل تجارتها أو تقطع سُبُل مواصلاتها، فراحت تتقرَّب إليها، وتعقد المُعاهدات معها. لكنَّ هذه المُعاهدات كانت مؤقتة بِفعل استمرار توسُّع الدولة العُثمانيَّة، وحرص البُندُقيَّة على الاحتفاظ بِمركزها المُمتاز في المشرق. وتحقيقًا لِهذا الهدف قوَّت مركزها في اليونان والمورة وبحر إيجة، واستولت على مواقع استراتيجيَّة جديدة فيها، مُحاولةً ما أمكن حرمان العُثمانيين من التوسُّع، وكانت أكثر ما تخشاه هو سُقُوط القُسطنطينيَّة بِأيديهم لِأنَّهم بِذلك سيُشكلون خطرًا جديًّا، ليس على تجارتها فحسب بل وعلى وُجودها في المشرق، لِذلك حاولت البُندُقيَّة مُساعدة الروم على الصُمُود في وجه الحصار العُثماني، كما ساندت الحركات المُناهضة لِلحُكم العُثماني في الإيالات والبلاد المفتوحة، كحركة إسكندر بك الأرناؤوطي. لكنَّ القُسطنطينيَّة سقطت في النهاية، واضطرَّت البُندُقيَّة إلى الاعتذار عن موقفها أمام السُلطان مُحمَّد. وفي سنة 864هـ المُوافقة لِسنة 1460م، أتمَّ السُلطان فتح المورة حيثُ كانت لِلبُندُقيَّة مراكز هامَّة، فتجاور الخصمان وتواجها، وساد الشُعُور بِأنَّ الصدام أضحى وشيكًا، فأعادت البُندُقيَّة النظر في سياسة الصُلح مع العُثمانيين. وأُشيع في ذلك الزمن أنَّ السبب المُباشر لاندلاع الحرب بين العُثمانيين وأعدائهم، وعلى رأسهم البُندُقيَّة، كان إلحاق البُشناق بِالدولة العُثمانيَّة، ففي سنة 868هـ المُوافقة لِسنة 1463م، وصل الخبر إلى السُلطان بِأنَّ ملك المجر متياس كورڤن قد اتفق مع الحُكَّام البنادقة على طلب ثأر ملك البُشناق أسطفان طوماسوڤيچ، واجتمعت كلمتهم على أن يهجم الملك المجري على البلاد العُثمانيَّة المُجاورة لِمُلكه، ويثب البنادقة على بلاد المورة ويعمرون سد كرمه حصار، الذي هدمه السُلطان مُراد قبل عدَّة سنوات، ثُمَّ يأخذون البلاد تدريجيًّا، وقد اتبعهم في ذلك الأرناؤوطيين. لكنَّ السبب الحقيقي كان الفتح العُثماني لِلقُسطنطينيَّة وإغلاق العُثمانيين المضائق في وجه سُفُن البُندُقيَّة، بِالإضافة إلى حيازة العُثمانيين على قُوَّةٍ عسكريَّةٍ واقتصاديَّةٍ لا تسمح لِأي دولة أن تنال منهم، وشكَّل سُلُوك العُثمانيين الظافرين مصدرًا لِلقلق في أوروپَّا، لا سيَّما وأنَّ الكثير من المُسلمين كانوا يُستوطنون البلاد المفتوحة بعد كُلِّ انتصار، ويعملون على نشر الإسلام فيها وتعريف أهلها على هذا الدين، وقد أصابوا في ذلك نجاحًا كبيرًا، فقد اعتنق الإسلام العديد من الكرواتيين البوغوميليين، ودخلت أفواجٌ هائلةٌ من البُشناقيين والأرناؤوطيين في هذا الدين، وقد ثبت هؤلاء بِالذات على الإسلام وتمسَّكوا به، ودخلوا في نطاق الثقافة العُثمانيَّة.

استشار السُلطان مُحمَّد الأعيان المُدبِّرين والأُمراء المُجرِّبين في ما يجب فعله بعدما وصلت الأخبار باستعدادات البنادقة والمجريين لِحرب العُثمانيين، فاجتمعت الكلمة في الشُرُوع على دفع الأضرِّ منهم، والعمل بِالأهم فالأهم، فأرسل السُلطان الصدر الأعظم محمود باشا في جميع العسكر إلى المورة لِيمنع البنادقة من تعمير سد كرمه حصار، فسار الصدر الأعظم في ربيع سنة 869هـ المُوافقة لِسنة 1464م إلى صوب المورة، لِيكتشف أنَّ البنادقة قد سبقوه إليها وعمَّروا السد سالف الذِكر، وجعلوه أحكم ممَّا كان عليه، وشحنوه بِالمدافع والمُقاتلة. كما شرعوا بِمُحاصرة قلعة كورنثة وكادوا أن يأخذوها من أيدي المُسلمين، وكان والي المورة سنان بك بن علوان قد تحصَّن فيها، ولمَّا اشتدَّ الأمر عليه اتفق مع أتباعه وخرج من القلعة في ليلةٍ ظلماء وبيَّت البنادقة وكسرهم، ولم يلبث محمود باشا أن وصل في عقب هذه الواقعة في عسكرٍ عظيم، وهجم على كرمه حصار وسخَّرها بِأيسر وجه، ثُمَّ دمَّرها بِالكامل، وتتبَّع البنادقة وقتل منهم فريقًا وأسر آخر، وأجبر البقيَّة على الفرار إلى ساحل البحر حيثُ ركبوا سُفنهم وأقلعوا فورًا، بعد أن فقدوا قائدهم وأنهكهم الزحار. وأرسل محمود باشا إلى ركاب السُلطان يُعلمه بانتصاراته الباهرة، ففرح بِذلك وأرسل الخُلع إلى الصدر الأعظم، وأمره بِتسخير بقيَّة قلاع المورة، فجدَّ الوزير في ذلك وافتتح قلاع: آرغوس وإسپرطة ويلدروز وميتوري ولوندار. نتيجةً لِلمُواجهات الفاشلة في المورة مع الدولة العُثمانيَّة، رأت البُندُقيَّة أن تستند على فكرة حرب العُثمانيين من الشرق والغرب في الوقت نفسه، فراحت تبحث عن حُلفاءٍ لها في منطقة الأناضول الشرقيّ، كما لم تُهمل مُحالفاتها مع الغرب الأوروپي. ولم يكن في الشرق دولة مسيحيَّة سوى مملكة الكرج، لِذلك مالت البُندُقيَّة إلى التعامل مع إحدى الدُول الإسلاميَّة المُناوئة لِلعُثمانيين، وكان في بلاد الأناضول آنذاك ثلاث إماراتٍ من الأُسر التُركمانيَّة، وهي إمارتا القرمانيين وذي القدريَّة، التابعتان لِلسيادة العُثمانيَّة، وإمارة رمضان، التابعة لِلمماليك في مصر والشَّام. وهكذا تطلَّعت البُندُقيَّة إلى إمارة القرمان لِتحريضها على مُهاجمة العُثمانيين، وبِخاصَّةً أنَّ هذه الإمارة قد أخذت على عاتقها في السَّابق القيام بِمُضايقتهم، إلَّا أنَّ الفاتح كان قد أخضعها كما أُسلف، ولم يعد القرمانيين الحليف الذي يُمكن أن يُسدِّد ضربة لِلقُوَّة العُثمانيَّة. فتوجَّهت الأنظار نحو الدولة المملوكيَّة في سبيل تحريض المماليك على العُثمانيين عبر استغلال الخلافات الحُدُوديَّة بين الطرفين، لكنَّ المماليك اعتبروا بِأنَّ خلافاتهم مع العُثمانيين ليست مُهمَّة بِالدرجة التي تجعلهم يُقدمون على دُخول حربٍ واسعة، كما أنَّ السلطنة المملوكيَّة لن تُقدم على أيِّ عملٍ، بِالتحالف مع النصارى، ضدَّ دولةٍ إسلاميَّةٍ أُخرى، يُضاف إلى ذلك أنَّهُ لم تظهر من جانب السُلطان العُثماني أيَّة بوادر تُشير إلى رغبته باجتياز نهر الفُرات وجبال طوروس، وإنَّما ركَّز جُهُوده على أوروپَّا. نتيجةً لِهذه المواقف السياسيَّة، تطلَّعت البُندُقيَّة إلى الدولة الآق قويونلويَّة، وعقد آمالها على أوزون حسن الذي أبدى استعدادًا لِمُهاجمة العُثمانيين، وأثبت هذا الأمير التُركماني أنَّهُ يملكُ قُوَّةً عسكريَّةً هائلة، فهو يُسيطر على الأناضول الشرقيَّة، ويتحرَّق غيظًا من السُلطان مُحمَّد الذي قضى على إمبراطوريَّة طرابزون التي تشُدُّه إليها روابط عائليَّة، بِالإضافة إلى أنَّهُ أخضع إمارة القرمانيين ما أحدث تضعضُعًا وخللًا في التوازن في المنطقة. ورأى الأوروپيُّون أنَّهُ لو كان بِالإمكان إعطاء الدور الذي لعبه تيمورلنك في الماضي، إلى أوزون حسن، لكسبت أوروپَّا الحرب من الناحية الإستراتيجيَّة، وحتَّى إن لم يتيسَّر لها دحر القُدرة العُثمانيَّة، فإنَّهُ سيكون في إمكانها حصرها في حُدُود المعقول.

وكانت المصالح التجاريَّة دافعًا قويًّا لِأوزون حسن لِلاصطدام بِالعُثمانيين، ذلك أنَّ طرابزون كانت منفذًا لِلتجارة الإيرانيَّة ومُرتبطة تجاريًّا بِعاصمته تبريز، وقد خشي من أنَّ الامتداد التوسُّعي العُثماني، باتجاه الشمال والشرق، سوف يقضي على مصالحه التجاريَّة، لِأنَّ العُثمانيين سيتحكَّمون عندئذٍ بِالطُرق التجاريَّة ويُضايقون التُجَّار الإيرانيين، لِذلك حاول الاستيلاء على أعالي الفُرات، وهي الطريق الطبيعي لِلتجارة الإيرانيَّة التي ترتبط بِالأناضول بِشبكةٍ من الطُرق التجاريَّة امتدادًا إلى شماليّ الشَّام. وكان القضاء على إمبراطوريَّة طرابزون من قِبل السُلطان مُحمَّد الفاتح، الشرارة التي أشعلت نار الحرب بين العاهلين. وقد روادت الأمير التُركماني فكرة القضاء على العُثمانيين والمماليك معًا لِيُقيم على أنقاض مُلكهما تلك الدولة الواسعة التي كان يحلم بها. وهكذا جرت مُفاوضاتٌ بين البُندُقيَّة وبين أوزون حسن شاركت فيها بعض الدُول الأوروپيَّة والبابويَّة، تميَّزت بِالأناة والهُدُوء، واتُّفق على وضع الخُطُوط العريضة لِلمُعاهدة التي تضمَّنت خطَّةً لِلتقسيم التي تحصل المجر بِموجبها على حصَّة الأسد لِتخصيصها أكبر قُوَّة عسكريَّة، فلها بلادُ الصرب وبُلغاريا والبُشناق والأفلاق، وتحصل البُندُقيَّة كذلك على حصَّةٍ كبيرة، بِفعل مُوافقتها على تحمُّل القسم الأكبر من النفقات الماليَّة، بِالإضافة إلى تقديمها أُسطولها البحري القويّ، فتكون المورة وأتيكة وتساليا وإپيروس من نصيبها. ويُعاد إحياء الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة على أن تنحصر حُدُودها في تراقيا لِكونها أرثوذكسيَّة، وتكون بِمثابة دولة حاجزة، وبِذلك يُطرد المُسلمون من أوروپَّا بِشكلٍ كاملٍ. أمَّا الأراضي التي ستبقى لِلعُثمانيين في الأناضول فتكون رهنًا بِسياسة أوزون حسن الذي سيُعيد إلى إمارة القرمان استقلالها ويُعيد تأسيس إمبراطوريَّة طرابزون ويضعهما تحت حمايته، كما سيضم أراضي الأناضول الوسطى، وبِذلك تنحصر الدولة العُثمانيَّة بين بحر البنطس (الأسود) وبحر مرمرة وبحر إيجة والبحر المُتوسِّط، ولا يُسمح لها بِالاقتراب من الأناضول الأوسط. وعلم السُلطان الفاتح، الذي كان يملك أقوى شبكة تجسُّس في العالم، ولهُ عُيُونٌ وأرصادٌ في كُل منطقةٍ من أوروپَّا، إجراءات الاتفاق الذي رُتِّب ضدَّه، خُطوة بِخُطوة، فتحرَّك بِسُرعةٍ لِإحباطه، وتمكَّن من سبق الأعداء.

الحملة الثانية على المجر :

بعد هذه الترتيبات، تحرَّك البابا پيوس الثاني من روما في 12 شوَّال 868هـ المُوافق فيه 18 حُزيران (يونيو) 1464م، على رأس جيشٍ صليبيٍّ، لكنَّهُ تُوفي في الطريق. صبَّت هذه الحادثة في مصلحة العُثمانيين، لِأنَّ البابا الجديد بولس الثاني قد تحوَّل عن مُحاربة العُثمانيين إلى مُحاربة ملك بوهيميا جُريج الپوديبرادي لِحمايته الهراطقة الهوسيِّين أتباع الكاهن يُوحنَّا هوس، وسُرعان ما خرج ملك المجر متياس كورڤن وأخذ قلعة يايجة وحصَّنها، وبلغ ذلك السُلطان فتجهَّز بِأكمل جهاز وسار في ربيع سنة 870هـ المُوافقة لِسنة 1466م إلى استرداد القلعة المذكورة، فحاصرها مُدَّةً مديدةً وقاتل حاميتها، لكنَّهُ لم يتمكَّن من فتحها، ثُمَّ بلغه أنَّ ملك المجر قد حاصر بلدة إزورنيق مع جمعٍ عظيمٍ من الجُنُود، فترك السُلطان مُحمَّد بك بن منت لِيستكمل حصار يايجة، وتوجَّه هو في بقيَّة العسكر إلى قتال متياس كورڤن؛ ولمَّا تبيَّن له أنَّ الدُرُوب والمعابر الجبليَّة كانت مشحونةً بِالأعداء والمدافع الكبار ويصعب عُبُورها، عيَّن الصدر الأعظم محمود باشا على رأس الجيش لِإنجاد إزورنيق، وعاد هو إلى صوفيا وشتى فيها. وكان قائد حامية البلدة سالِفة الذِكر هو إسكندر بك ميخائيل أوغلي، ومعهُ خمسُمائة مُقاتل، وقد أظهروا الجلادة والتدبير في الدفاع عنها، إلَّا أنَّ الأمر اشتدَّ عليهم لمَّا طال أمد الحصار، ولم يبقَ عندهم شيءٌ من الزاد والذواد والآلات، وكان الوقت شتاء والأرض محفوفة بِالثُلُوج، فكادوا أن يستسلموا لولا أن وصلهم جاسوسٌ من طرف الصدر الأعظم يُثبِّتهم ويُعلمهم أنَّ النجدة قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى. ووجد الجاسوس أنَّ المجريين قد استتروا في حُفرٍ تحت الأرض من شدَّة البرد، فعاد وأخبر الصدر الأعظم بما رآه، فأسرع الخُطى وأخذ المجريين على حين غرَّة وسحقهم سحقًا، وترك الملك المجريُّ مدافعه وسائر آلات الحصار وفرَّ ناجيًا بحياته، فتبعهُ محمود باشا إلى أن عبر نهر صوه، وهكذا نجا متياس كورڤن من الموت بِصُعُوبة، ولم يفلت معهُ سوى جمعٌ قليلٌ من جُنُوده، واغتنم العُثمانيُّون أشياء كثيرة. ثُمَّ رمَّم الصدر الأعظم إزورنيق وحصَّنها بِالرجال والميرة، وعاد إلى ركاب السُلطان. أمام هذه المُستجدَّات، اضطرَّت البُندُقيَّة إلى تحمُّل عبء الحرب على الجبهة الغربيَّة بِمُفردها.

الحملة ضدِّ إسكندر بك :

بعد هزيمة المجريين، حوَّل السُلطان مُحمَّد انتباهه إلى بلاد الأرناؤوط لِتسخيرها لِاتفاق أُمرائها وزُعماء عشائرها مع البنادقة، فعاث فيها وبثَّ سراياه إلى أطرافها، فأصاب العُثمانيُّون غنائم وسبايا كثيرة، ثُمَّ استأمن إليه بقيَّة حُكَّام تلك البلاد، والتزموا أداء المال والخراج، فأمَّنهم السُلطان، ثُمَّ أمر ببناء قلعةٍ مُحكمةٍ في وسط تلك الديار لِمُحافظة عُهودهم، وسمَّاها إيلبصان، وشحنها بِالرجال وأودع فيها ما تحتاجه من المدافع وآلات الحرب. ثُمَّ بلغهُ أنَّ إسكندر بك العاصي قد نقض المُعاهدة التي أبرمها مع العُثمانيين في شهر رمضان سنة 865هـ المُوافق فيه شهر حُزيران (يونيو) 1461م، التي ترك فيها السُلطان إقليميّ الأرناؤوط وإپيروس لِإسكندر بك، وأغار على بلاد قلقان دلن، فتوجَّه السُلطان في ربيع سنة 872هـ المُوافقة لِسنة 1468م لِدفع غائلة إسكندر بك، وحاصر عاصمته آقچة حصار، وعرض على حاميتها التسليم وتعهَّد لهم بِتأمينهم على حياتهم، لكنَّ أهل الحصن بادروا بِقصف المُحاصرين بِالمدافع، فردَّ عليهم العُثمانيُّون بِالمثل، وقصفوا الحصن قصفًا عنيفًا، لكن بلا طائل، فقد صمدت المدينة، لكنَّ طول الحصار أضعف المُقاومة وقلَّل المؤونة والذخائر، فاضطرَّ إسكندر بك أن يبعث الكردينال "بولس أنجلوس" إلى البُندُقيَّة لِيُعلم حُكَّامها بِصُمُود الأرناؤوطيين في عاصمتهم، وأنَّ هذا الصُمُود لا يُمكن أن يدوم إلَّا لو أرسل البنادقة مددًا. لكنَّ البُندُقيَّة ردَّت بأنها غير قادرة على المُساعدة كونها تُواجه ضُغُوطًا مُتزايدةً من العُثمانيين في كُلٍ من دلماسيا وبحر إيجة، وأنَّها غير قادرة على تجنيد المزيد من العساكر بِسبب الصُعُوبات الماليَّة التي تُواجهها؛ ومن المعروف أنَّ السُلطان مُحمَّد كان قد منح غراندوقيَّة توسكانة امتيازاتٍ تجاريَّةٍ كبيرة، وحسَّن أحوالها الماليَّة بِشكلٍ واسعٍ، وذلك بِغرض إضعاف القُدرة الماليَّة والاقتصاديَّة لِلبُندُقيَّة. تابع إسكندر بك قتال العُثمانيين رُغم عدم حُصُوله على المُساعدة، حتَّى أدرك السُلطان أنَّ المدينة لن تسقط، ففكَّ الحصار عنها وعاد أدراجه، ثُمَّ عاود الكرَّة عليها مُجددًا بعد شهرين فقط، لكنَّهُ فشل في أخذها هذه المرَّة أيضًا، إذ التجأ إسكندر بك إلى الجبال الحصينة وأخذ يُناوش العُثمانيين حتَّى أنهك قواهم، فاكتفى السُلطان بأنَّ قسَّم ما افتتحه من البلاد الأرناؤوطيَّة إلى سنجقين، وأعطاهما إلى أميرين، ثُمَّ قفل عائدًا إلى عاصمة مُلكه. وفي 22 جُمادى الآخرة 872هـ المُوافق فيه 17 كانون الثاني (يناير) 1468م، تُوفي إسكندر بك، بعد أن حارب الدولة العُثمانيَّة خمسًا وعشرين سنة بِدون أن تقوى على قمعه، فكان من أشدِّ خُصُوم الدولة وألدِّ أعدائها.

فتنة القرمانيين والقدريين :

بعد وفاة إسكندر بك، حوَّل السُلطان أنظاره إلى بلاد القرمان بِآسيا الصُغرى ووجد فيها سبيلًا لِلتدخُّل وهو أنَّ أميرها إبراهيم بك بن مُحمَّد أوصى بعد موته بِالحُكم إلى أحد أولاده واسمه الأمير إسحٰق، ولكون أُمِّه أُمَّ ولد نازعهُ الحُكم أُخوته من أبيه الذين من الزوجات، واستنجد أكبرهم المدعو پير أحمد بِالسُلطان العُثماني، وتعهَّد لهُ بِالتنازل عن قسمٍ من الإمارة لِلدولة العُثمانيَّة، فرأى السُلطان في ذلك فُرصةً لا تُعوَّض، لكن كان عليه تأمين الجبهة الغربيَّة مع البُندُقيَّة أولًا قبل التحرُّك نحو آسيا. فقام الفاتح بِمُناوراتٍ سياسيَّةٍ مُعقدةٍ جدًا مع البنادقة، إذ فتح بابًا لِمُفاوضات الصُلح على الرُغم من أنَّ الحرب كانت ما تزال دائرة، وقدَّم لِلبُندُقيَّة شُرُوطًا مُبهرة دفعت ساستها إلى طاولة المُباحثات، فأوقفوا الحرب مُدَّةً من الزمن، فساد الأمن في أنحاء أوروپَّا حتَّى حين، وسار السُلطان وحارب الأمير إسحٰق وهزمه وأجبره على الإلتجاء إلى بلدة سُليقية على تُخُوم الإمارة، وولَّى محلُّه أكبر إخوته پير أحمد، وعاد هو إلى عاصمته. ولم يكد السُلطان مُحمَّد يرجع إلى إسلامبول حتَّى بلغه غدر پير أحمد، إذ عاد واستردَّ ما كان قد تنازل عنه لِلعُثمانيين من البلاد، وأشهر العصيان ضدَّهم، كما بلغه اضطراب الأوضاع في إمارة ذي القدريَّة، إذ ثار البكوات والقادة والأعيان على أميرهم "شهبُداق بن سُليمان"، بعد أن سعى لدى السُلطان المملوكي، الظاهر سيف الدين خُشقدم، في قتل أخيه الأكبر سيف الدين ملك أصلان، الأمير السابق لِلبلاد، أثناء زيارته القاهرة، ثُمَّ تولَّى العرش بدلًا منه بِدعمٍ من السُلطان سالف الذِكر. فقام بِوجهه أخيه الآخر "شهسوار"، واستنجد بِالسُلطان العُثماني لِيُعاونه على أخيه المُغتصب. توجَّه السُلطان الفاتح أولًا إلى دفع غائلة الأمير القرماني، فوصل إلى قونية وأخذها دون عناء، فهرب پير أحمد إلى لارندة، فسيَّر السُلطان الصدر الأعظم محمود باشا إلى قتاله، فسار إليه وقاتله بِخارج لارندة قتالًا شديدًا ثُمَّ انكسر فهرب شرقًا لِلاحتماء بِأوزون حسن، وأمر السُلطان بِقتل كُل من أُسر القرمانيين المُوالين لِلأمير العاصي، ثُمَّ أمر الصدر الأعظم بِتتبُّع القدريين المُفسدين المُوالين للأمير شهبُداق، فلاحقهم وأسر جمعٌ من أتباعهم، وأُرسلوا إلى السُلطان فأمر بِقتلهم، وتولَّى شهسوار مكان أخيه، وتمكَّن بِفضل المُناصرة العُثمانيَّة من تحدِّي المماليك والصُمُود بِوجه حملاتهم العسكريَّة التي أُرسلت لِإعادة هذه الإمارة تحت جناح السلطنة المملوكيَّة. وأمر السُلطان مُحمَّد الصدر الأعظم بِنقل أهل الصنائع والحرف من قونية ولارندة إلى إسلامبول، فنفَّذ ما أُمر به، ثُمَّ قام بِتعمير قلعة قونية وهدم قلعة كوالة القديمة التي شيَّدها البيزنطيُّون، وعمَّر قلعة أحمدك، ثُمَّ أقطع تلك البلاد لِولده الشاهزاده مُصطفى لِيُريح باله من هذه الجهة، ثُمَّ عاد إلى صوب دار مُلكه. وجديرٌ بِالذكر أنَّ السُلطان مُحمَّد عزل بُعيد هذه الحملة الصدر الأعظم محمود باشا الصربي وولَّى مكانه مُحمَّد باشا الرومي، وتنص بعض المصادر أنَّ سبب ذلك كان مُعارضة محمود باشا ضم الإمارة القرمانيَّة عبر تعيين الشاهزاده مُصطفى واليًا عليها، وقيل أنَّ مُحمَّد باشا الرومي، الذي كان بينه وبين الصدر الأعظم نزاعٌ وشقاق، افترى عليه عند السُلطان أُمورًا قبيحة من جُملتها أنَّهُ قال أنَّهُ قد أخذ رشاوى من أغنياء قونية ولارندة فتركهم وأجلى الفُقراء والمساكين منهم وظلمهم، فصدَّقهُ السُلطان في ذلك.

فتح جزيرة وابية :

أثناء انشغال السُلطان بِآسيا الصُغرى، هاجم البنادقة في ثمانين سفينة سواحل إينوز ونهبوها وخربوها وأسروا خلقًا كثيرًا من المُسلمين، فأراد السُلطان الانتقام لِهؤلاء. وفي الحقيقة فإنَّ السُلطان هدف من وراء فتح باب مُفاوضات الصُلح مع البُندُقيَّة، كما أُسلف، كسب الوقت فقط من أجل معالجة الأزمات المُستجدَّة في الأناضول، وكان عاقد العزم على تدمير القُدرة العسكريَّة والاقتصاديَّة لِجُمهُوريَّة البُندُقيَّة، لِذلك أسرع، ما أن انتهى من بلاد القرمان وعلم بِما حصل لِمُسلمي أينوز، إلى إعلان أنَّ المُفاوضات دخلت في طريقٍ مُغلق، وأنَّ الحرب مع البنادقة عادت مُجددًا. وكان أوَّل ما فعله أن أرسل الصدر الأعظم السابق محمود باشا إلى گليپولي لِإعداد السُفن، وتوجَّه هو من جانب البر وبنيَّته فتح جزيرة وابية، المُسمَّاة في كُتب التُرك "أغريبوز". وكانت هذه الجزيرة - وهي أكبر جُزُر بحر إيجة - بِحوزة البنادقة مُنذُ سنة 1210م، أي لِمُدَّة 260 سنة، وقبلها كانت بِحوزة البيزنطيين. سار محمود باشا في مائة مركبٍ عظيمٍ من الغلايين و200 سفينة نقل إلى مضيق وابية، فحاصر الجزيرة من جانب البحر، أمَّا الجيش السُلطاني فقد دخل إلى تساليا من ممر ترموبيل، وانتقل منها إلى أتيكة وانتقل إلى صوب الجزيرة، وكان البنادقة قد قطعوا الجسر الذي يُعبر منه إليها من بر اليونان، فرتَّب محمود باشا جسرًا من السُفن حتَّى عبر عسكر السُلطان منه إلى قاعدة الجزيرة، وهي قلعة "نجربونت" التي سمَّاها العُثمانيُّون بِنفس اسم الجزيرة، أي أغريبوز. وشرع العُثمانيُّون في الحصار والقتال، وكانت سُفن البنادقة قد قرُبت من الجزيرة، لكنَّ قائدها لم يجسر على الاقتراب من الأُسطُول العُثماني. دام حصار نجربونت 17 يومًا، ثُمَّ سقطت القلعة في الهجوم الخامس، فافتُتحت عنوةً يوم 14 مُحرَّم 875هـ المُوافق فيه 12 تمُّوز (يوليو) 1470م، وقتل السُلطان المُقاتلة من أهلها وأمَّن الرعيَّة على أنفسهم ودينهم وأموالهم وعيالهم، وحوَّل قسمًا من كنائس الجزيرة إلى مساجد، ثُمَّ عاد إلى إسلامبول. كانت خسارة البُندُقيَّة بِوابية جسيمة، كون تلك الجزيرة كانت مركز مُستعمراتها في البحر المُتوسِّط، وأحدث سُقُوط الجزيرة في يد المُسلمين تأثيرًا كبيرًا في أوروپَّا، كسُقُوط القُسطنطينيَّة وطرابزون، وحاولت البُندُقيَّة استرداد الجزيرة بِالمال، لكنَّ السُلطان رفض ردَّها إليها بِأيِّ ثمن.

مُحاولة القضاء على بقايا القرمانيين :

لم يكُف پير أحمد وأخوه قاسم عن إثارة أهالي القرمان وحثِّهم على مُحاربة الدولة العُثمانيَّة والولاء لِلأُسرة القرمانيَّة القديمة، فعادا إلى بلدة سُليقية على تُخُوم إمارتهما السابقة، وتحصَّنا بها واتخذاها مركزًا لِدعوتهما الثائرة. لِذلك، ما أن عاد السُلطان مُحمَّد من فتح جزيرة وابية حتَّى أرسل الصدر الأعظم مُحمَّد باشا الرومي في جمعٍ لِإخضاع البقيَّة الباقية من بلاد القرمان واستئصال بقيَّة القرمانيين. ولمَّا كان مُحمَّد باشا المذكور مشهورًا بِقساوته وغلظة قلبه وسوء تدبيره وظُلمه، فإنَّهُ ارتكب مظالم كثيرة في تلك البلاد ما أن وصلها، فألقى النار في أهلها وأفقرهم بِمُصادرة أموالهم ظُلمًا، وخرب مدينة لارندة وهدم معاهدها ومدارسها، ثُمَّ قصد مدينة أركلي فلم يدع شيئًا إلَّا دكَّه، وقد تضرَّع إليه السُكَّان وناشدوه الله أن يُبقي على الدور التي أوقفت على المدينة المُنوَّرة، ولكنَّهُ صمَّ آذانه. وطال أذى الصدر الأعظم حتَّى نال من أحد أحفاد المُلَّا جلال الدين الرومي، واسمه أحمد چلبي بن أمير علي، فأجلاه عن موطنه بِالظُلم والإكراه. وتوجَّه بعد ذلك إلى حيثُ تُقيم قبيلة وارساق القويَّة بِالقُرب من جبال طوروس في شمال غربيّ سُليقية، وكان يتولَّى قيادتها أميرٌ يُدعى "أويوز بك"، فجمع جمعًا من رجال القبيلة وكمنوا لِلصدر الأعظم في مضيقٍ وقتلوا أكثر رجاله واستولوا على جميع ما اكتسبه بِالظُلم والتعدِّي، فنجا مُحمَّد باشا في جمعٍ قليلٍ. ولمَّا علم السُلطان بِما اقترفته يدا الصدر الأعظم وما لحق به من هزيمةٍ فوق ذلك، استشاط غضبًا، فعزل مُحمَّد باشا وأعدمه عقابًا له على عُدوانه، وعيَّن بدلًا منه بكلربك الأناضول إسحٰق باشا وسيَّره إلى القرمان في ربيع سنة 875هـ المُوافقة لِسنة 1471م، في جيشٍ كبير. وما أن سمع پير أحمد بِقُدُوم هذا الجيش حتَّى لاذ بِالفرار إلى هضبة طاش إيلي، ثُمَّ لجأ إلى أوزون حسن، وسُرعان ما لحق به أخوه قاسم بك، فلم يجد إسحٰق باشا صُعُوبةً في استعادة المُدن والقلاع. وأكرم السُلطان الأهالي الذين وقع عليهم ظُلم مُحمَّد باشا وأعادهم مُعززين إلى أوطانهم. كما أمر إسحٰق باشا بِأن يُجلي بُيُوتًا من مدينة آق سراي إلى إسلامبول، وما زالت محلَّاتهم التي نزلوا فيها من العاصمة العُثمانيَّة تُسمَّى "آق سراي" إلى الآن.

وفي السنة التالية، أرسل السُلطان مُحمَّد الوزير كدك أحمد باشا إلى آسيا الصُغرى لِتقوية الجيش العُثماني فيها وشد أزر الشاهزاده مُصطفى وضم المدينتين الساحليتين الهامتين: العلائيَّة وسُليقية، خُصُوصًا بعد أن تواترت الأنباء بِتحفُّز أوزون حسن لِلهُجُوم من الشرق ووُصُول أُسطولٍ صليبيٍّ من الغرب. أمَّا العلائيَّة فكان يحكمها أميرٌ تابعٌ لِلقرمانيين يُدعى "قلج أرسلان بن لطيف"، وكان من بقايا السلاجقة، ولم يكن السُلطان مُحمَّد لِيسمح بِأن تقع مدينته في يد الصليبيين أو قراصنة الإسبتاريَّة، فتُصبح وكرًا لِلسُفن المُعادية، لِذلك عقد العزم على ضمِّها، ولمَّا حاصرها كدك أحمد باشا أدرك أهلها أنَّ لا قِبل لهم بِمُواجهة العُثمانيين، فسلَّموا مدينتهم صُلحًا، وأُرسل الأمير قلج أرسلان إلى إسلامبول حيثُ رحَّب به السُلطان مُحمَّد وخلع عليه الخُلع الوفيرة، وعيَّن لهُ ولِأهله ريع أرضٍ واسعةٍ يعيشون به في رغدٍ ورفاهيَّة. وتسلَّم كدك أحمد باشا قلعتيّ سُليقية وموقن أيضًا بِالأمان، ووجد في موقن أموال الأُمراء القرمانيين وأهل پير أحمد وعياله وأقاربه، فأرسلهم جميعًا إلى إسلامبول، وسخَّر جميع القلاع والبلدات ولواحقها، وذهب بِذلك آخر أثر لِسيادة الأُسرة القرمانيَّة في الأناضول، ولم يبقَ من القرمانيين إلَّا من التجأ إلى أوزون حسن، وتحقَّقت السيطرة العُثمانيَّة التامَّة على سواحل البحر المُتوسِّط.

قتال التُركمان الآق قويونلويين :

كان من بين الأسباب التي دفعت السُلطان مُحمَّد إلى الإسراع في ضم العلائيَّة وسُليقية، أنَّ أُسطُولًا صليبيًّا تمركز في ساحل مدينة لارنقة بِقبرص، من بين سُفُنه 58 سفينة حربيَّة بُندُقيَّة، وأخذ يقصفُ قلاعًا عُثمانيَّةً في سواحل البحر المُتوسِّط، ولكنَّهُ لم يتمكَّن من تحقيق شيءٍ يُذكر، وكانت هذه السُفن تحملُ أسلحةً ناريَّةً لِمدِّ جيش أوزون حسن، فلم تتمكَّن من تمريرها، وانسحبت من المنطقة. بناءً على هذا، أصبحت أوروپَّا تُعلِّق الأمل أكثر من أيِّ وقتٍ مضى على أوزون حسن، الذي لُقِّب بِـ"التُركي الصغير"، لِضرب الدولة العُثمانيَّة في آسيا، كي تتمكَّن من ضربها في البلقان بعد أن يُخفف الهُجُوم التُركماني الضغط على الجبهة الغربيَّة. وكان أوزون حسن مُغترًا بِنفسه وبِقُوَّته، واعتقد أنَّهُ سيتمكَّن من إخضاع السُلطان الفاتح، كما تمكَّن تيمورلنك قبله من إخضاع السُلطان بايزيد الأوَّل، وممَّا زاد في ثقته بِقُدرته على النصر أنَّهُ سبق وقضى على حاكمين مُسلمين وأباد جيشهما وضمَّ بلادهما إلى دولته، الأوَّل هو مُظفَّر الدين جهانشاه بن يُوسُف، أمير الدولة القره قويونلويَّة، والآخر هو أبو سعيد ميرزا بن مُحمَّد، أمير ما تبقَّى من الدولة التيموريَّة. كما كان الجيش التُركماني الآق قويونلوي أكثر عددًا من الجيش العُثماني. ولمَّا أتمَّ كدك أحمد باشا ضمِّ العلائيَّة وسُليقية، أرسل أوزون حسن الأميران القرمانيَّان پير أحمد وأخاه قاسم في جمعٍ من التُركمان إلى بلاد القرمان، فعاد أحمد باشا إلى دفعهما، وجهَّز أوزون حسن جيشًا مع وزيره عُمر بك بن بكطاش، وجعل معه ابن عمِّه يُوسُفجه ميرزا، ثُمَّ أرسلهم لِإمداد القرمانيين، فأغاروا على أطراف توقاد وأحرقوا البلدة مع نواحيها وقُراها ونهبوا أموال أهلها، ثُمَّ توجَّهوا إلى قيصريَّة ونهبوها أيضًا، ثُمَّ عاد عُمر بك وترك يُوسُفجه ميرزا في عشرة آلاف فارس لِمدد القرمانيين، فأغار يُوسُفجه على بلاد الحميد وغيرها بِدلالة الأميرين القرمانيين، ولمَّا وصل هذا الخبر إلى السُلطان مُحمَّد استدعى محمود باشا الصربي من سنجقه گليپولي وأعاده إلى الصدارة العُظمى، وتجهَّز لِلمسير إلى أخذ الثأر من أوزون حسن، وأرسل إلى ولده الشاهزاده مُصطفى والي القرمان يأمره بِالقُدُوم إلى بلدة "قره حصار" لِمناعة حصنها. ولمَّا وصل محمود باشا إلى الركاب شاهد عجلة السُلطان على أخذ الثأر، وكان الشتاءُ قريبًا، فأخَّر الحملة إلى الربيع بِحُسن التدبير، وأرسل إلى بكلربك الأناضول داود باشا يأمره بِالتوجُّه إلى الشاهزاده مُصطفى بِقره حصار، ثُمَّ يسير معه إلى دفع التُركمان والأميران القرمانيَّان، فسار داود باشا مع الشاهزاده إلى أن وصلا بلدة "قيرايلي" غرب قونية، وكان يُوسُفجه ميرزا نازلًا فيها، فالتقى الجمعان واقتتلوا قتالًا شديدًا، فانكسر أصحاب يُوسُفجه من التُركمان وأوباش القرمان، وأُسر يُوسُفجه مع كثيرٍ من أعيان أتباعه، وقُتل كثيرٌ منهم، فأرسل الشاهزاده مُصطفى يُوسُفجه ميرزا مُكبلًا بِالحديد إلى أبيه السُلطان مُحمَّد، فحبسهُ السُلطان مع أعيان أصحابه، وأمر بِقتل الباقين.

وفي ربيع سنة 878هـ المُوافقة لِسنة 1473م، توجَّه السُلطان مُحمَّد إلى قتال أوزون حسن في جميع عساكر الروملِّي والأناضول، وخرج معهُ في هذه الحملة بكلربك الروملِّي مُراد بك الخاصكي مع أربعين أميرًا من أُمراء السناجق، وكذلك حضر بكلربك الأناضول داود باشا مع أربعةٍ وعشرين أميرًا من أُمراء سناجق الأناضول، كما حضر إبنا السُلطان كُلٌ مع جُنُود الإيالة التي يتولَّاها: الشاهزاده مُصطفى مع عسكر إيالة القرمان، والشاهزاده بايزيد مع عسكر إيالة الرُّوم، فاجتمع على السُلطان مائة ألف مُقاتل بين فارسٍ وراجل، وسار بهم إلى سيواس لِلتصدي لِلتُركمان. وتحرَّك أوزون حسن، في الوقت نفسه، من معمورة العزيز في ديار بكر إلى إرزنجان، وهو يعلم أنَّ اللقاء سيكون رهيبًا وفاصلًا، وأرسل في غُضُون ذلك إلى رئيس البُندُقيَّة وإمبراطور ألمانيا وملك المجر يُعلمهم بِخُرُوجه ويحُثُّهم على الزحف بِاتجاه الأراضي العُثمانيَّة. وأرسل السُلطان مُحمَّد البكلربك مُراد الخاصكي في جمعٍ من عسكر الروملِّي وأُمرائها في طليعة الجيش، وحذَّره ألَّا يُقدم على المهالك والمخاوف ويشتبك مع أوزون حسن قبل وُصُول بقيَّة الجيش، لكنَّ مُرادًا لمَّا كان شابًا جلدًا مُتهورًا مُغترًّا بِنفسه وقُوَّته، سار لِلقاء الآق قويونلويين والظفر بهم، فوقع في كمينٍ نصبه له أوزون حسن في إحدى الممرَّات، فقُتل مع كثيرٍ من أتباعه، وأُسر آخرون، فحبسهم أوزون حسن في قلعة بايبُرد. ولمَّا وصلت الأنباء إلى السُلطان مُحمَّد جدَّ في السير حتَّى التقى بِعدُّوِّه في مُرتفعات "أوتلق بلي"، على بُعد أربعين كيلومتر شماليّ شرقيّ إرزنجان، في 12 ربيع الأوَّل المُوافق فيه 12 آب (أغسطس)، فرتَّبوا الصُفُوف بحيث وقف الشاهزاده بايزيد في الميمنة ومعه الوزير كدك أحمد باشا، وأخوه الشاهزاده مُصطفى في الميسرة ومعه البكلربك داود باشا، والسُلطان مُحمَّد ومعهُ طائفة القپوقوليَّة في القلب. وكان في ميمنة أوزون حسن ولده زينل بك، وفي ميسرته ولده الآخر أوغورلي مُحمَّد بك. ولم يكن أوزون حسن قد شاهد بِعينيه قبلًا الجُيُوش العُثمانيَّة السيَّارة، فانبهر انبهارًا شديدًا لمَّا رأى الجُنُود تسيرُ بِتشكيلاتٍ مُحكمة التنظيم ناشرةً بيارقها، واندهش لمَّا سمع موسيقاها العسكريَّة المُثيرة لِلحمية، وشاهد نوعيَّة قماش ملابس الجُنُود وتجهيزاتهم الثقيلة، ويُروى أنَّهُ قال: "وَيْحُكَ يَا ابْنَ عُثمَان، أيُّ بَحْرٍ هَذَا الذِي جَهَّزتَه؟!". والتحم الجمعان في معركةٍ قاسيةٍ دامت عدَّة ساعات، بادر فيها البكلربك داود باشا في القتال، وتساقطت كتائب الخيَّالة التُركمانيَّة الواحدة تلو الأُخرى بِنيران المدفعيَّة العُثمانيَّة والمُشاة حملة البنادق الثقيلة، ولم يتمكَّن أوزون حسن من السيطرة على وحداته التي تبعثرت بِفعل الأسلحة الناريَّة التي لم يعهدوها قبلًا، وحمل الشاهزاده مُصطفى مع فيلقه على ميسرة العدوّ، وأبادها مع قائدها زينل سالف الذِكر، كما هاجم الشاهزاده بايزيد سرادق أوزون حسن، الذي سارع بِالهرب من الميدان بعد أن أدرك هزيمته ومقتل ولده، ووقع في الأسر عدَّة أُمراء من كبار التُركمان، فسيقوا إلى السُلطان. ويُروى أنَّ أوزون حسن قال لِپير أحمد القرماني أثناء هُروبهما: "يَا ابْنَ قَرَمَان، خَرَّبَ الله سُلَالَتَك، سَبَّبتَ عَارِي وَخَزْيي. مَا لِي وَبَنِي عُثْمَان!". كان سُرُور السُلطان مُحمَّد بِهذا النصر عظيمًا، فلم يبقَ لهُ من عدوٍّ من جهة الشرق، وقضى على أكبر خطرٍ مرَّ على دولته مُنذُ عهد تيمورلنك، فافتدى الأسرى التُركمان من ماله وأخلى سبيلهم شُكرًا لله على النصر المُبين، ولم يأمر بِمُطاردة أوزون حسن وفُلُول جيشه. كما أمر بِإرسال المُبشرين إلى الأطراف وتزيين البلاد، وأعتق جميع مماليكه من الذُكُور والإناث - وكانوا أربعين ألفًا - ووهب العسكر ما كانوا قد استقرضوا من الخزينة عند الخُرُوج إلى هذه الحملة، وكان ذلك المال مائة حمل من الدراهم العُثمانيَّة، فعفاهم عنه.

نهاية القرمانيين :

بعد هزيمته المُذلَّة، سعى أوزون حسن إلى الصُلح مع العُثمانيين رُغم رجاء حُلفاؤه القرمانيين والأوروپيين ألَّا يفعل، لكنَّهُ لم يُعرهم انتباهًا، فاعترف بِإلحاق طرابزون وبلاد القرمان بِالدولة العُثمانيَّة، كما جمع أولاده وأوصاهم بِعدم الهُجُوم على العُثمانيين أبدًا، وتُوِّج الصُلح بين الطرفين بِزواج ابنة السُلطان مُحمَّد جوهرخان خاتون من أوغورلي مُحمَّد ابن أوزون حسن. وبِذلك أضحى الأميران القرمانيَّان پير مُحمَّد وقاسم بلا حليفٍ يدعم مُطالبتهما بعرش آبائهما وأجدادهما، فتوجَّها مع حفنةٍ من الرجال نحو الأناضول، واستولى قاسم على قلعة سُليقية وتحصَّن فيها، بينما سار أحمد إلى قلعة أرمناك جنوبيّ لارندة، وكانت قد بقيت في أيدي نُوَّابه، وكذلك قلعة مينان التي كانت مضرب المثل في الحصانة والمناعة، وشرع منهما في الغارة على البلاد المُجاورة، فأرسل السُلطان الوزير كدك أحمد باشا إلى دفع غائلته، فسار أحمد باشا واستولى على أرمناك ومينان أيضًا بعد حصارٍ شديد وقتالٍ طويل، ممَّا أجبر قائد حاميتها، وهو أحد مماليك پير أحمد، أن يُسلِّمها بِالأمان، وكان فيها جميع أموال أحمد المذكور وحريمه، فأرسلها الباشا إلى قونية، وعمَّر القلعة ورتَّب فيها حاميةً جديدة. وكان پير أحمد قد هرب من القلعة إلى رؤوس الجبال حيثُ شاهد سُقُوطها بِيد العُثمانيين، فانتابه اليأس والبؤس، وألقى بنفسه من رأس الجبل، فمنعه من السُقُوط إلى الهلاك بعض الأشجار، ووجده بعض أصحابه مُغشيًا عليه، فحملوه إلى مكانهم، ولمَّا استفاق وعوفي سار إلى الشَّام وبقي فيها حتَّى مماته. أمَّا قاسم بك فقد استسلم لِأحمد باشا ودخل في طاعة السُلطان مُحمَّد، وكان ذلك في سنة 879هـ المُوافقة لِسنة 1474م. وفي هذه السنة أيضًا أمر السُلطان ولده الشاهزاده مُصطفى بِتسخير قلعة "دوه لوقره حصار"، وكان فيها من جانب القرمانيين من كبار أُمرائهم "أتمجه بك"، لكنَّ الشاهزاده لم يتمكَّن من القيام بِهذه المُهمَّة بِنفسه نظرًا لِمرضٍ ألمَّ به، فأوكله إلى أحد أُمرائه المدعو "قوجي بك"، فحاصر الأخير القلعة، لكنَّ أميرها رفض تسليمها إلَّا لِلشاهزاده مُصطفى، فتجلَّد وسار إليها واستلمها بِالأمان وأكرم واليها، ثُمَّ عاد إلى قونية حيثُ داهمه الموت ولهُ من العُمر 23 سنة فقط، فحزن عليه السُلطان مُحمَّد وأمر بِنقل جُثمانه إلى بورصة لِيُدفن فيها. وبِهذا زال مُلك بني قرمان وأصبحت إمارتهم جُزءًا من الدولة العُثمانيَّة، بعد أن هلك جميع أُمرائهم أو خضعوا لِلسُلطان مُحمَّد.

فتح القرم :

كانت بلاد الروسيا الغربيَّة وشبه جزيرة القرم، والأراضي الواقعة شماليّ بحر البنطس (الأسود) يحكمها، مُنذُ أيَّام جنكيز خان، أُمراءٌ من المغول الذين اعتنقوا الإسلام، وعُرفت دولتهم باسم خانيَّة القبيلة الذهبيَّة أو خانيَّة مغول القفجاق، وقد تفتَّتت هذه الدولة نتيجة غزوات تيمورلنك واسعة النطاق، وكانت خانيَّة القرم إحدى الدُول الجديدة التي قامت على أنقاض القبيلة الذهبيَّة، في سنة 1449م، على يد "پير حاجي كراي".[ِ 64] ولم يلبث أن دبَّ الوهن في جسم هذه الدولة بِفعل الصراع الداخلي على السُلطة والحُرُوب المُتواصلة ضدَّ الروس، فانتهز الجنويُّون هذه الفُرصة واستولوا على ثُغُورها: آزاق وكفَّة ومنكب وغيرها، واتَّخذوها محطَّاتٍ تجاريَّةٍ في ظلِّ تراجع نُفُوذ البنادقة، وأضحى جميع ساحل القرم الجنوبي عمليًّا بِيد التُجَّار الجنوييين ابتداء من سنة 766هـ المُوافقة لِسنة 1365م، فتبادلوا التجارة مع أوروپَّا، وصدَّروا إليها الحُبُوب والخُيُول والرصاص والأسماك، حيثُ جنوا الرِّبح الوفير. وما جرى من النُموِّ المُضطَّرد لِلدولة العُثمانيَّة في عهد مُحمَّدٍِ الفاتح وسيطرته على السواحل الجنوبيَّة لِبحر البنطس (الأسود)؛ دفعهُ إلى التمدُّد بِاتجاه الشمال لِلسيطرة على سواحله الشماليَّة لِأربعة أسبابٍ رئيسيَّة: طرد الجنويين من مُستعمراتهم، إذ أنَّ بقاء قُوَّة مسيحيَّة فيها سيُشكِّلُ مصدر تهديدٍ دائمٍ لِدولته، والسيطرة على التجارة الدُوليَّة بين القرم وأوروپَّا، وتحويل الطرق التجاريَّة إلى إسلامبول لِتمويلها بِالغلال والحُبُوب والأخشاب، وجعل بحر البنطس بُحيرة عُثمانيَّة. ويُضيف الأُستاذ مُحمَّد فريد بك المُحامي سببًا خامسًا هو رغبة السُلطان مُحمَّد بِالاستعانة بِفُرسان القرم المشهورين في القتال على مُحاربة إمارة البُغدان. وساعدت الظُرُوف السياسيَّة السُلطان الفاتح كي يُسيطر على بلاد القرم، فقد شهدت هذه البلاد صراعًا داخليًّا مريرًا بين الخان "منكلي كراي" وخُصُومه، أمثال نور دولت خان وكلدي خان، وتدخَّل الجنويُّون في هذا الصراع لِلمُحافظة على مصالحهم التجاريَّة، ما أثار وُجهاء البلاد، فالتمسوا المُساعدة من السُلطان العُثماني، فعهد إلى كدك أحمد باشا القيام بِتنفيذ هذه المُهمَّة، بعد أن عيَّنهُ صدرًا أعظمًا وخلع محمود باشا من المنصب. تجهَّز أحمد باشا وسار في ثلاثمائة سفينة من الأغربة والغلايين وغيرها، ورسا قبالة كفَّة في 25 مُحرَّم 880هـ المُوافق فيه 1 حُزيران (يونيو) 1475م، ثُمَّ استولى على هذا الميناء والموانئ والثُغُور الأُخرى، مثل سوغداق ومنكب وآزاق. وأعطى أحمد باشا الأمان لِلجنويين الذين استسلموا وسلَّموا القلاع، فارحتلوا عائدين إلى بلادهم. وبِذلك يكون العُثمانيُّون قد قضوا نهائيًّا على الوُجُود الجنوي في القرم، وأضحت شواطئ هذه المنطقة تابعةً لِلدولة العُثمانيَّة مُنذُ ذلك الوقت.

ويُعدُّ فتح القرم من أهم فُتُوح السُلطان مُحمَّد الثاني بعد القُسطنطينيَّة، لِما كان لِهذه البلاد من وفرة الثروة والحُصُون المنيعة، ومن ثُمَّ سُمِّيت بِـ"القُسطنطينيَّة الصُغرى". ووافق الخان منكلي كراي على الخُضُوع لِلدولة العُثمانيَّة ودفع الخِراج، ونصَّ الاتفاق بينه وبين السُلطان مُحمَّد على أن يُعيِّن الأخير أميرًا على البلاد يكون من نسل جنكيز خان، يُذكر اسمه في الخِطبة بعد الخليفة العبَّاسي والسُلطان العُثماني، كما يُسمح بِضرب اسمه بعد اسم السُلطان على قطع النُقُود التي يسُكَّها الخان. وأسَّس العُثمانيُّون سنجقًا في كفَّة لا علاقة له بِإمارة القرم، فاكتسب الحُكم العُثماني بِذلك صفته القطعيَّة في حوض بحر البنطس، ودخل هذا البحر تحت السيادة العُثمانيَّة. وتوثَّقت عُرى الاتحاد بين العُثمانيين ومغول القرم عبر المُصاهرة، فقد تزوَّج حفيدا السُلطان: الشاهزادان سليم ومُحمَّد، بِعائشة حفصة وعائشة خاتون، ابنتا الخان منكلي كراي. كما عُيِّن الشاهزاده مُحمَّد سالف الذكر أميرًا على سنجق كفَّة، وبقي يتولَّى هذا المنصب إلى أن تُوفي سنة 1504م.

الحملة على البُغدان :

اتَّسمت سياسة إمارة البُغدان تجاه الدولة العُثمانيَّة بِالتذبذُب، شأنها شأن جارتها الجنوبيَّة إمارة الأفلاق، وذلك لِوُقُوعها وجارتها بين ثلاث دُولٍ كُبرى تتنازع السيطرة عليها: مملكة بولونيا ومملكة المجر والدولة العُثمانيَّة، كما أُسلف. وكان حاكمُ هذه الإمارة المدعو أسطفان بن بُغدان قد رفض الدُخُول في طاعة العُثمانيين ولم يقبل دفع الجزية لهم، ثُمَّ استغلَّ انهماك السُلطان الفاتح بِالحُرُوب المُتواصلة في آسيا الصُغرى وبلاد اليونان، وهاجم إمارة الأفلاق وبِنيَّته خلع أميرها راؤول، الذي نصَّبه السُلطان مُحمَّد على العرش كما أُسلف، وعاد واعتنق الإسلام مُتأثرًا بِتربيته في البلاط السُلطاني العُثماني. فلم يقبل أسطفان بأن تكون السيادة على جارته الجنوبيَّة لِأميرٍ مُسلمٍ، وسعى إلى تنصيب أميرٍ من قبله يُدعى "بساراب"، ونجح في مسعاه وتمكَّن من خلع راؤول وتنصيب الذي أراده. لِذلك قرَّر السُلطان قتال أسطفان وإخضاعه، فأرسل بكلربك الروملِّي سُليمان باشا الخادم البُشناقي على رأس 120,000 جُندي لِتسخير البُغدان سنة 881هـ المُوافقة لِأواخر سنة 1475م، ولم يخرج أسطفان إلى مُقاتلة العُثمانيين لمَّا علم بِقُدُومهم، وصبر حتَّى تفرَّق العسكر لِلإغارة على الأطراف واغتنام ما تيسَّر، فكبسهم على حين غرَّة قُرب مدينة واسلوي، وبعد مُحاربةٍ عنيفةٍ قُتل فيها كثيرٌ من الجيشين المُتحاربين، عاد ما تبقَّى من الجُيُوش العُثمانيَّة بِدون فتح شيءٍ من هذا الإقليم، إذ كانت أغلب العساكر الإسلاميَّة قد قُتلت في المعركة، ولم يفلت منهم سوى مُقدِّمهم سُليمان باشا في جمعٍ من خواصه. ولمَّا بلغ خبر هذا الانهزام آذان السُلطان مُحمَّد تكدَّر عظيمًا، فجمع الجيش وأرسل أُسطوله إلى فتح ميناء آق كرمان على ساحل البُغدان، ولمَّا تمَّ هذا الأمر أقلعت السُفن الحربيَّة إلى مصاب نهر الطونة (الدانوب) لِإعادة الكرَّة على البلاد البُغدانيَّة، وحملت معها ذخائر كثيرة ومؤونة وفيرة من القرم، وسار السُلطان بِنفسه يُريد أسطفان، فتقهقر أمامه وانسحب بِجيشه لِعدم إمكانيَّته المُحاربة في السُهُول، والتجأ إلى الجبال الشاهقة ذات الغابات الكثيفة لِيُناوش العُثمانيين، وأحرق العلف والمحاصيل، ولولا أنَّ السُلطان كان قد أعدَّ لِهذه الحملة الزاد الكثير لَهلك الجيش جوعًا. وبثَّ السُلطان العُيُون إلى الأطراف لِلاستخبار عن مكان الأمير البُغداني، فاكتشف أنَّهُ اتخذ لهُ مكمنًا مع جُنُوده في تل "آغاج دكزي" أي "بحر الشجر"، فتوجَّه السُلطانُ إليه وقاتله قتالًا شديدًا حتَّى هزمه، ونجا أسطفان من سُيُوف العُثمانيين بِصُعُوبة، وفرَّ هاربًا إلى بولونيا، وترك جُنُوده يتساقطون تحت الضربات العُثمانيَّة حتَّى امتلأت بِجُثثهم ساحة القتال، وعُرف هذا المكان لاحقًا باسم "الوادي الأبيض"لِكثرة ما تكوَّم وتناثر هُناك من عظام الجُنُود البُغدانيين، وغنم العُثمانيُّون غنائم عظيمة، لكنَّهم لم يمكثوا في البلاد أكثر من شهرين بٍسبب تفشِّي الأمراض في الجو لِكثرة ما قُتل من الجُنُود في المعارك، فقفل السُلطان وعاد إلى إسلامبول. وعلى الرُغم من هزيمته الأخيرة، اشتهر أسطفان بن بُغدان في أوروپَّا بِمُقاومة العُثمانيين، كما اشتهر يُوحنَّا هونياد وإسكندر بك من قبل، وسمَّاه البابا سيكست الرابع "شُجاع النصرانيَّة وحامي الديانة المسيحيَّة".

الحملة الثالثة على المجر :

بعد عودة السُلطان مُحمَّد من حملته على البُغدان، وصل الخبر إلى ركابه ما أن بلغ صوب أدرنة، من طرف علي بك ميخائيل أوغلي، بِأنَّ ملك المجر متياس كورڤن قد أشهر العداء وبنى في موضع قوملوج بين نهريّ الطونة والموراوة قلعتين حصينتين من الأحجار والأخشاب، وكذلك قلعة أُخرى في شط الطونة في مُحاذاتهما، وحصَّن هذه القلاع بِالمُقاتلة والمدافع، وكان الشتاءُ في ذُروته، فتوجَّه السُلطان فيمن وُجد عنده من عسكر الروملِّي إلى هدم تلك القلاع في تلك الظُرُوف المُناخيَّة الصعبة، ووصل إليها بعد مشاقٍ كثيرة ومتاعب عظيمة، فعبر العسكر نهر الطونة - وكان قد تجمَّد تجمُّدًا ثخينًا - فحاصروا تلك القلاع وأخذوها ثُمَّ هدموها هدمًا كاملًا وألقوا أحجارها في الطونة، وأحرقوا أخشابها، ثُمَّ عاد السُلطان إلى دار مُلكه إسلامبول. وفي سنة 882هـ المُوافقة لِسنة 1478م، أرسل السُلطان علي بك ميخائيل أوغلي في الآقنجيَّة عن طريق بلاد الأفلاق إلى الإغارة على المجر، فانكسروا من طرف المجريين وعادوا خائبين، فغضَّ السُلطان النظر على مُتابعة الحرب مع المجر، وقرَّر زيادة الضغط على البُندُقيَّة وإنهاء هذه الحرب التي طالت.

فتح إشقودرة وما حولها :

كان السُلطان الفاتح يُمني النفس بِفرض الصُلح على البنادقة وفق شُروطه، وخلعهم من قواعدهم في البلقان بعد أن كسرهم وحُلفائهم وأفشل مُخططاتهم في طرد المُسلمين من أوروپَّا، لِذلك أرسل بكلربك الروملِّي سُليمان باشا الخادم البُشناقي إلى تسخير قلعة ليپانت في المورة، فلم يتيسَّر لهُ فتحها، فعزلهُ السُلطان عن منصبه وعيَّنه على بكلربكيَّة الأناضول، وأقام بكلربك الأناضول داود باشا مقامه، ثُمَّ أمر الصدر الأعظم كدك أحمد باشا بِأن يسير إلى فتح إشقودرة من بلاد الأرناؤوط، فاعتذر واستعفى عن ذلك، فلم يقبل السُلطان عُذره وحبسه في قلعة روملِّي حصار. ثُمَّ توجَّه بِنفسه على رأس الجيش في سنة 883هـ المُوافقة لِسنة 1478م إلى فتح المدينة المذكورة وأخذها من البنادقة، لكنَّهُ أغار أولًا على إقليميّ كرواتيا ودلماسيا ووصل إلى إقليم الفريول الواقع إلى الشمال من الخليج في رأس البحر الأدرياتيكي، وخرَّب سهل البُندُقيَّة الشرقي، فخاف البنادقة على مدينتهم الأصليَّة، وتنازلوا لِلسُلطان عن مدينة آقچة حصار التي كانت عاصمة إسكندر بك الشهير، فأخذها السُلطان أمانًا، ثُمَّ طلب منهم تسليم إشقودرة أيضًا، لكنَّهم رفضوا التنازل عنها، فحاصر السُلطان المدينة سالِفة الذِكر وسلَّط عليها مدافعهُ من رؤوس الجبال طيلة ستَّة أسابيعٍ مُتوالية، دون أن يُضعف ذلك قُوَّة سُكَّانها وعزيمتهم، وقُتل كثيرٌ من الجُنُود، فتركها السُلطان وقرَّر أن يفتتح الحُصُون الثلاثة المُحيطة بها أولًا، وهي: ليجه ودرغوس وكولباشي، وكانت هذه الحُصُون تحفظ إشقودرة من جهاتها الثلاث، فتوجَّه داود باشا إلى حصن كولباشي وفتحهُ صُلحًا، وحاصر سُليمان باشا حصن درغوس، ثُمَّ انضمَّ إليه داود باشا، فجدَّا في الحصار والقتال حتَّى أخذاه عنوةً، ثُمَّ حاصرا حصن ليجه وتسلَّماه بِالأمان، فهرب البنادقة الذين كانوا قد جاؤوا لِمُساعدة حاميته عبر النهر، فاعترضهم الجُنُود العُثمانيُّون وأسروهم وغنموا ما كان معهم. ولمَّا فُتحت الحُصُون الثلاثة أمر السُلطان بِبناءٍ بُرجٍ حصينٍ بجانب إشقودرة لِتضييق الخناق عليها، وترك فيه أحمد بك بن أفرنوس في عسكر الروملِّي، وعاد هو إلى إسلامبول. ولم يلبث أهل المدينة أن ضاق بهم الحال، فاستأمنوا إلى أحمد بك، فاستأذن هو السُلطان في ذلك، فأمَّنهم السُلطان، فخرج البنادقة من القلعة مع أهلهم وعيالهم وعادوا إلى بلادهم، ودخل أحمد بك المدينة وأمَّن أهلها الأصليين، وابتنى فيها المساجد، فصارت مُنذُ ذلك الوقت من بلاد الإسلام، وأقبل أغلب أهلها على اعتناق الدين الجديد أفواجًا.

صُلح العُثمانيين والبنادقة :

اضطرَّت البُندُقيَّة، تحت ضغط الأحداث العسكريَّة التي أرهقتها من جهة، ووفاة حليفها السابق أوزون حسن في سنة 883هـ المُوافقة لِسنة 1478م، من جهةٍ أُخرى، إلى الدُخُول في مُفاوضاتٍ مع الدولة العُثمانيَّة بِشأن الصُلح، ووافقت على الشُرُوط العُثمانيَّة الصعبة في مُعاهدةٍ أُبرمت بِإسلامبول، وانسحبت من الحرب في 2 ذي القعدة 883هـ المُوافق فيه 25 كانون الثاني (يناير) 1479م، وتضمَّنت شُرُوط الصُلح ما يلي:
- تدفع البُندُقيَّة غرامة حربيَّة مقدارُها مائة ألف دوقيَّة. 
- تدفع البُندُقيَّة جزية سنويَّة قدرها عشرة آلاف دوقيَّة. 
- تتنازل البُندُقيَّة عن مدينة آقچة حصار عاصمة إسكندر بك، وتُعيد إلى العُثمانيين جزيرة لمنى (لمنوس) وجُزءًا من المورة وجميع الأماكن التي استولت عليها مُنذُ بداية الحرب، كما تتخلَّى عن آرغوس وكامل الأرناؤوط، باستثناء بضع مواقع على الساحل. 
- يمنح السُلطان مُحمَّد البنادقة حُريَّة التجارة في جميع أرجاء الدولة العُثمانيَّة، ويُوافق على تعيين قُنصُلٍ لهم في إسلامبول يُشرف على شؤونهم وينظر في قضاياهم المدنيَّة. 

وبِهذا الصُلح انتهت الحرب بين جُمهُوريَّة البُندُقيَّة والدولة العُثمانيَّة، وبسطت الدولة العُثمانيَّة سيطرتها على المورة والأرناؤوط، وأصبح السُلطان مُحمَّد الفاتح في نظر بعض المُؤرخين الغربيين هو "غالب الكون".

المصدر : ويكيبيديا + مواقع إلكترونية.


الإبتساماتإخفاء