الثقوب السوداء وعلاقته بالخُنَّس الجواري الكُنَّس
لم تكن مفاجأة أن يتساءل الكثير من الناس إن كانت الثقوب السوداء هي "الخُّنَّس الجواري الكُنَّس" المذكورة في القرآن الكريم في الآية 15 من سورة التكوير. ولا بد للإجابة من إلقاء ضوء على موضوع الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.
ما إن تظهر نظرية علمية جديدة، أو كشف علمي حديث، حتى نرى فئة من المتسرعين، يهرعون إلى كتاب الله تعالى، يبحثون بين آياته عن إشارة أو تلميح لتلك النظرية الجديدة، أو ذلك الكشف الحديث؛ فإذا ما عثروا على شيء من ذلك -مهما كان بعيدا، ومهما كان معناه متمحلا- هللوا وكبروا، وظنوا أنهم وضعوا أيديهم على كنز عظيم، ودليل ساطع جديد على الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ثم راحوا ينشرون ما توصلوا إليه، فيلتقطه الناس ويتناقلونه، دون تثبت أو تأكد من مصدره وموثوقيته وعلميته.
فإذا ما قيل لهؤلاء المتسرعين: "مهلا يا قوم، ما هكذا تورد الإبل، القرآن الكريم ليس كتاب فيزياء ولا فلك، والنظريات العلمية لا نبحث عن إثباتها في كتاب الله، ولا نبحث عن إعجاز كتاب الله فيها"، يكون ردهم: "وهل تشككون في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم؟".
وجواب ذلك، أنه لا يختلف مسلمان على إعجاز كتاب الله، فهو المعجزة الخالدة التي تحدى الله سبحانه وتعالى الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله، فلم يفعلوا ولن يفعلوا، والتحدي قائم حتى قيام الساعة، وإعجازه ليس في مجال العلوم فقط، بل في مجالات عديدة كثيرة تستعصي على الحصر. غير أنه ليس من الحكمة ولا المنطق أن يبحث كل من هب ودب في الإعجاز العلمي، لمجرد أنه سمع نظرية ذكرته بآية من كتاب الله، فإثبات الإعجاز له أصول وشروط لا بد من توفرها في القضية العلمية مدار البحث، فإن توفرت وثبت إعجاز جديد فبها ونعمت، وإلا فالأدلة القاطعة على إعجاز كتاب الله أكثر من أن تحصى، ولا نحتاج لأدلة جديدة لا سند علميا لها.
الشروط الثلاثة وأدلتها
وهذه الشروط ثلاثة، ينبغي تطبيقها بالتسلسل: الأول، أن يكون موضوع البحث حقيقة علمية ثابتة بشكل قطعي، وبأدلة علمية قاطعة لا يمكن نقضها، وليس نظرية علمية يختلف العلماء على صحتها ولا يوجد دليل علمي قاطع على ثبوتها.
فإذا تحقق هذا الشرط، انتقلنا للشرط الثاني، وهو أن تكون إشارة القرآن الكريم إلى موضوع البحث قطعية الدلالة، لا تأويل فيها ولا تمحل، ولا خروج عن معاني اللغة العربية التي تحتملها الألفاظ القرآنية.
فإن تحقق هذان الشرطان الأساسيان، بحثنا عن شرط ثالث، وهو أن تكون تلك الحقيقة العلمية مما يستحيل على البشر الذين عاشوا في عصر نزول الوحي أن يتوصلوا إليها بالوسائل المعروفة في زمانهم.
والأمثلة خير توضيح لهذه الشروط، فمنها قوله تعالى في سورة الأنعام: "فمن يُردِ اللهُ أن يهديَه يشرحْ صدرَه للإسلام، ومن يُرد أن يُضلّه يجعل صدرَه ضيقا حَرَجا كأنما يصَّعَّدُ في السماء".
هذه الآية الكريمة تشير بوضوح إلى حقيقة علمية ثابتة قاطعة، وهي أن الإنسان لو صعد في الفضاء بعيدا عن الأرض فسيشعر بضيق شديد في صدره، وألفاظ الآية واضحة قاطعة لا تقبل التأويل، تشير بوضوح إلى حقيقة علمية من المستحيل على من عاش في عصر النبوة أن يدركها بالعلوم المعروفة والوسائل المتوفرة آنذاك، فلم يصعد أحد باتجاه السماء ليعلم أن ضغط الهواء ينخفض وأن هواء التنفس يقل بالتدريج مما يجعل صدره "ضيقا حرَجا"، فنستطيع أن نقول باطمئنان ويقين إن في هذه الآية إعجازا علميا.
ومثال آخر أشد وضوحا، يقول سبحانه في سورة النور واصفا أعمال الكفار: "أو كظُلُماتٍ في بحرٍ لجّيٍّ يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب، ظلماتٌ بعضها فوق بعضٍ إذا أخرجَ يدهُ لم يكد يراها"، فهل يوجد ألفاظ أكثر وضوحا من هذه الآية تصف الظلام الدامس في الأعماق السحيقة للبحار والمحيطات؟ وتلك حقيقة علمية قاطعة، أثبتها العلم التجريبي بعد أن وصلت الغواصات لتلك الأعماق، والتي يستحيل على من عاش في عصر النبوة أن يصل إليها، فنستطيع أن نقول بثقة ويقين إن هذه الآية من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.
اعلان
وأمثلة الإعجاز العلمي كثيرة جدا، ألّف فيها العلماء المختصون المؤهلون الكتب والمجلدات.
الخنّس الجواري الكنّس
ونعود إلى وتساؤلات القراء حول ما إذ كانت الثقوب السوداء هي المقصودة بقوله تعالى في سورة التكوير: "فلا أقسم بالخنّس الجواري الكُنّس"، ونعرض هذا الأمر على الشروط المذكورة.
فإذا بحثنا عن الشرط الأول، نجد أن ما يجهله العلماء عن الثقوب السوداء أكثر مما يعرفونه، وما زالت الأبحاث حولها في بداياتها، وما زالت آراء العلماء مختلفة حول نشأة هذه الثقوب، وطريقة انضغاط المادة فيها، وعلاقتها بتطور المجرات والنجوم، وماهيتها من الداخل، والمعلومات المتوفرة عنها يتم تحديثها باستمرار، ولا يستبعد أن يصل العلم يوما إلى حقائق عنها تقلب ما يعرفونه عنها رأسا على عقب، لذلك لا نبحث عن إشارات لها في القرآن الكريم قبل أن تصبح معلومات العلماء عنها يقينية ترقى لدرجة الحقائق العلمية.
إن عدم توفر الشرط الأول، يغنينا عن البحث في الشرط الثاني، وهو أيضا غير متحقق، وذلك لأن ألفاظ "الخنس الجواري الكنس" ليست قطعية في دلالتها على الثقوب السوداء، فكلمة "الخُنَّس"، مشتقة من الفعل "خَنَس"، ومعناها في اللغة كما جاء في القاموس المحيط: "خنس خنوسا: تأخِّر، والخُنَّس، الكواكب كلها، أو السيارة منها، أو النجوم، وخنوسها أنها تغيب"، وكلمة "الجواري"، تنطبق على كل جرم سماوي جار في السماء، فجميع الكواكب والنجوم تتحرك كما نعلم، وكلمة "كُنَّس" مشتقة من الفعل "كَنَس"، ونجد في لسان العرب: "كنَسَتِ الظِّباء والبقر تَكْنِسُ بالكسر، وتَكَنَّسَتْ واكْتَنَسَتْ: دخلت في الكِناس، وهو موضع في الشجر يكْتَنُّ فيه ويستتر. وظِباء كُنَّسٌ، وكَنَسَتِ النجوم تَكْنِسُ كُنُوساً: استمرَّت في مَجاريها ثم انصرفت راجعة، وفي التنزيل فلا "أُقْسِمُ بالخُنْسِ الجَواري الكُنَّسِ" الكُنَّسُ النجوم تطلع جارية وكُنُوسُها أَن تغيب في مغاربها التي تغِيب فيها".
وهكذا نجد أن المعنى اللغوي لألفاظ الآية الكريمة لا يفيدنا بشكل قاطع بأنها تشير إلى الثقوب السوداء، كما رأينا في قوله تعالى "يصعَّد في السماء"، أو في قوله تعالى "بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب"، فتلك ألفاظ قطعية الدلالة تدل على ظواهر قطعية الثبوت، في حين أن قوله تعالى "الخنس الجواري الكنس" دلالته على الثقوب السوداء ظنية لا قطع فيها، على الثقوب السوداء، والتي هي بدورها ما زالت في طور الظن والاكتشاف والبحث والتحقيق.
قرآننا يا سادة معجز، وإعجازه العلمي قد ثبت في عدد كبير جدا من الظواهر القطعية الثبوت، وبألفاظ قطعية الدلالة، فلا حاجة بنا لنزيد عليها ما لم يثبت، فنجعله بذلك حجة لكل مغرض، بأن يتهمنا بالجهل والتسرع، أو أن يشكك في إعجاز كتاب الله الكريم، معجزة الله الباقية ما دامت السموات والأرض.
المصدر : ويكيبيديا + موسوعة الجزيرة.
الإبتساماتإخفاء