إعلان

السلطان محمد الفاتح - القائد الذي أرعب أوربا بفتوحاته

فتوحات السلطان الفاتح في أوربا

السلطان محمد الفاتح - القائد الذي أرعب أوربا بفتوحاته

شكل فتح السلطان العثماني محمد الفاتح لإسطنبول سنة 1453م إلى إشعار الأوربيين بالتهديد القوي الذي مثله العثمانيون لهم، فقد كانت الخطوة الثانية للسلطان محمد الفاتح بعد فتحه لمدينة القسطنطينية، الشروع في سلسلة من الفتوحات لإعادة التفوق العثماني وترسيخه في البلقان، إذ لم يكن فتح القسطنطينية في نظر السلطان محمد الفاتح بمثابة النهاية لفتوحاته وتوسعاته، بل كان البداية الحقيقية ومستقبل تاريخه لمزيد من التوسع ومد نفوذ الدولة العثمانية وبسط سلطانها على أراضي وبلدان واسعة في مناطق مختلفة من أوربا، حيث أعطى له فتح القسطنطينية الفرصة والرغبة في مواصلة حروبه من أجل تدعيم الدولة العثمانية وتوسيع رقعة أملاكها في أوربا، وخصوصاً القوى الصليبية المتواجدة في دول البلقان، والذين بدؤا يدركون أن ضياع القسطنطينية من أيدهم قد صار حقيقة واقعة، وأصبح في قبضة واحد من أشد أعدائهم ألا وهو السلطان محمد بطموحاته السياسية والدينية، وقدراته التخطيطية والقتالية، فأخذت القوى الأوربية على عاتقها البحث عن قوة خارجية تتحالف معها وتساعدها على التصدي للخطر العثماني الذي بدأ يهدد أوربا.

فتح سوريجه حصار وإينوز :

أدَّى سُقُوط القُسطنطينيَّة في أيدي المُسلمين إلى تخوُّف مُلٌوك الأطراف من النصارى والمُسلمين من قُوَّة العُثمانيين الكبيرة، فأرسلوا رُسلًا إلى ركاب السُلطان مُحمَّد لِتجديد روابط الوداد والصُلح والهُدنة بين دُولهم والدولة العُثمانيَّة، وكان قيصر الصرب جُريج برانكوڤيچ قد استولى على كثيرٍ من البلاد التي افتتحها المُسلمون زمن السُلطان مُراد الثاني، واستردَّها لِنفسه، ولمَّا بلغه خبر فتح القُسطنطينيَّة أرسل رسولًا مع مفاتيح القلاع التي أخذها وطلب العفو والأمان من السُلطان، فطلب الأخير منهُ بقيَّة القلاع، فأبى التسليم وأغار على أطراف الدولة العُثمانيَّة وقطع عددًا من الطُرق الحيويَّة، فما كان من السُلطان إلَّا أن سار على الفور لِدفع هذا العدوان، فهرب القيصر الصربي إلى المجر، وظنَّ أنَّ السُلطان طمع في مدينة سمندريَّة فقط، فأخلاها وجعل جميع أمواله في قلعة سوريجه حصار، فحاصرها السُلطان أولًا وأخذها بعد قتالٍ شديد، فوجد فيها أموالًا عظيمة فاغتنمها بِأسهل الوُجُوه، وسيطر على الحُصُون التي بِقُربها، ثُمَّ فتح حصن «أمولة» أيضًا، ثُمَّ سيَّر سريَّة من الآقنجيَّة مع مُحمَّد بك بن فيروز للإغارة على بقيَّة بلاد الصرب، فخرَّبوا عدَّة نواحي وعادوا مع السُلطان إلى أدرنة، وكانت هذه الحملة في سنة 858هـ المُوافقة لِسنة 1454م.

أشتى السُلطان مُحمَّد تلك السنة في أدرنة، وأجرى بعض الترتيبات الإداريَّة والدبلوماسيَّة، ومنها أنَّهُ فوَّض قضاء العسكر إلى مُربيه المولى أحمد بن إسماعيل الكوراني، واستقبل رسول جُريج برانكوڤيچ الذي حمل رسالةً من سيِّده تتضمَّن إعلانه الخُضُوع لِلسُلطان العُثماني، وتعهُّده بِدفع مبلغ ثلاثين ألف دينار سنويًّا (أو ثمانين ألف دوقيَّة حسب مصادر أُخرى) على سبيل الجزية، وإن كان مُستعدًا لِأن ينقض هذه التبعيَّة إذا ما وجد مُشجعًا على ذلك. وعقد السُلطان مُعاهدةً مع البُندقيَّة في شهر ربيع الآخر 858هـ المُوافق فيه شهر نيسان (أبريل) 1454م، حافظت بِموجبها هذه الدولة التجاريَّة على امتيازاتها، بعد أن اعتذرت لِلسُلطان عن موقف مُواطنيها في مُساعدة البيزنطيين، وعرضت دفع جزية سنويَّة، بين ثلاثة آلاف وخمسة آلاف دوقيَّة، كما اعترفت باختصاص المحاكم الشرعيَّة في النظر بِالخُصُومات التي تنشأ بين المُسلمين والبنادقة في الأراضي العُثمانيَّة. كما عقد السُلطان الفاتح اتفاقاتٍ سلميَّةٍ مع جُزر أرخبيل بحر إيجة، مثل نقشة ولمنى (لمنوس). وفي أثناء ذلك قدم قاضي بلدة «قره جك» إلى ركاب السُلطان وشكى من جنويي بلدة «إينوز» وممَّا كانوا يفعلون بِالمُسلمين من الجور والأذيَّة والتعدِّي على ضياع أهل «إيبصلة» و«قره جك»، وغصب مماليكهم من الجواري والغلمان. فوعد السُلطان القاضي المذكور بِدفع شرِّ الروم، ثُمَّ دعا أحد قادة البحَّارة، واسمه يُونُس باشا الخاصكي، وأمره بِتعمير عشرة أغربة بِالعساكر العزبيَّة والسير إلى جانب إينوز، ففعل ما أُمر به وحاصر البلدة من جهة البحر، في حين حاصرها السُلطان من جهة البر. وكان آخر أسياد هذه البلدة، پالاماد گاتيلوسيو، قد تُوفي، وحصل نزاعٌ بين ابنه دورينو وزوجة أخيه الروميَّة، المدعُوَّة هيلانة نوتارس، على تولِّي الحُكم، مما دفعها إلى الاحتماء بِالسُلطان مُحمَّد وإعلان خُضُوعها له. أمام هذا الواقع، استسلمت البلدة لِلعُثمانيين وتسلَّمها السُلطان سلمًا دون قتال، وأرسل يُونُس باشا إلى قلعة «طاش أوز» في مُحاذاة إينوز في البحر، فأخذها. وقيل في بعض المصادر أنَّ دورينو صاحب إينوز لمَّا شاهد مجيء العُثمانيين هرب إلى جزيرة سمدرك، ثُمَّ قدم ركاب السُلطان بِأدرنة مُستعفيًا، وقدَّم هدايا كثيرة أرسلها مع ابنته، فعفا عنهُ السُلطان وأقطعه إيالة «زيخنة» في مقدونيا، وأرسله إليها في جمعٍ من الخُدَّام، لكن يبدو أنَّ دورينو لم يُسرّ بِعطيَّة السُلطان، فما أن وصل إلى ساحل البحر، حيثُ كان قد أعدَّ سفينةً لِلهرب، افتعل شجارًا مع من كان معه من الحرس كان من نتيجته أن قتلهم وباقي المُسلمين الذين رافقوه، ثُمَّ ركب البحر والتجأ إلى المُستعمرة الجنويَّة في جزيرة مدللي.

فتح مُعظم بلاد الصرب :

كانت سياسة السُلطان مُحمَّد الفاتح في البلقان، التي وقعت تحت السيطرة العُثمانيَّة، تنم عن بُعد نظر ورغبة في جعل هذه البلاد أرضًا مُسالمة لا خاضعة فقط، ومنع أيَّة دولة أجنبيَّة من أن تمُدَّ نُفُوذها جنوبيّ نهر الطونة (الدانوب)، وجعلت هذه السياسة شُعُوب البلقان المسيحيَّة مُتعلِّقة بِالسلام العُثماني، إلَّا أنَّ هذا السلام كان مفروضًا أن يمنع قوى البلقان من أن تُصبح شوكة في جنب الدولة العُثمانيَّة، لِذلك كانت سيادة العُثمانيين على هذه الشُعُوب مُتزعزعة، تقوى حينًا وتضعُف أحيانًا، فكان على السُلطان أن يُوطِّد أقدام المُسلمين في البلاد المذكورة. والواقع أنَّ اتساع رقعة الدولة العُثمانيَّة ونُمُوَّها أدَّى إلى أن تشعر بعض الدُول بِأنَّ الخطر العُثماني أصبح داهمًا، وفي مُقدِّمتها قيصريَّة الصرب ومملكة المجر وجُمهُوريَّة البُندُقيَّة، وكانت هذه الأخيرة صاحبة النُفُوذ الأقوى على سواحل البلقان، عسكريًّا واقتصاديًّا. ويبدو أنَّ الذي مكَّن السُلطان العُثماني من الهيمنة عليهم تباعُد مراكزهم، وعدم قُدرتهم على حشد جُيُوشهم في مكانٍ واحدٍ وتنسيق عمليَّاتهم العسكريَّة. فالصرب كانت تقع بين مُمتلكات العُثمانيين، ومملكة المجر القويَّة تحت زعامة يُوحنَّا هونياد الوصيّ على العرش، وكانت بعضُ أجزاءٍ منها تقع تحت السيطرة العُثمانيَّة وبعضُ أجزاءٍ أُخرى تحت سيطرة المجر. ونظرًا لِموقع هذه البلاد الجُغرافي، بِوصفها بوَّابة العُبُور إلى المجر، أصرَّ السُلطان على أن تكون لهُ وحده هذه السيادة على الصرب، يُضافُ إلى ذلك أنَّ سياسة برانكوڤيچ اتسمت بِالتذبذب، فكان يُظهر صداقة العُثمانيين ويُبطن عداوتهم، ولم يتوانَ عن التعاون مع هونياد ضدَّ العُثمانيين عندما دعاهُ هذا الأخير إلى ذلك، كما أنَّ الحاجات الماليَّة لِلدولة كانت في تزايُدٍ مُستمرٍّ ما دفع السُلطان الفاتح إلى الرغبة في استعادة إقليم نوابرده الغنيّ بِالمناجم، والواقع تحت سيطرة برانكوڤيچ، فمن أجل ذلك، ولِتفادي هذا الخطر، بادر السُلطان إلى غزو بلاد الصرب قبل أن تتخذها القُوَّات المُتحالفة مركزًا لِلهُجُوم على الأراضي العُثمانيَّة.

وفي سنة 859هـ المُوافقة لِسنة 1454م، جهَّز السُلطان جيشًا وسار من طريق إسكوپية إلى بلاد الصرب، فاستقبله عيسى بك بن إسحٰق أمير سنجق إسكوپية لمَّا وصل إلى قُرب قصبتها سالفة الذِكر، وجعلهُ السُلطان على مُقدِّمة الجيش لِوُقُوفه على تلك البلاد، فسار وحاصر أولًا قلعة نوابرده سبعة أيَّام، ثُمَّ تسلَّمها بِالأمان، وكان فيها أكثر خزائن برانكوڤيچ، وكانت أموالًا عظيمة، فرتَّب السُلطان فيها حاميةً وقاضيًا، ثُمَّ توجَّه إلى قلعة «تريجة» وفتحها، ووجد فيها أيضًا أموالًا لا تُحصى، ثُمَّ سيَّر عيسى بك، وقيل قراجة باشا، في سريَّةٍ إلى بلاد الصرب لِلسيطرة على المناجم التي فيها، فسيطرت الجُنُود العُثمانيَّة على مُعظم البلاد بلا نزاع، وضبطت مناجمها. ثُمَّ سار السُلطان إلى مشهد خُداونگار، أو تُربة السُلطان مُراد الأوَّل، الواقعة في سهل قوصوه، فبذل الصدقات على الفُقراء، وأطعم المساكين فيها، ثُمَّ أذن لِلعسكر في العودة إلى أوطانهم، وسار هو في خواص خُدَّامه إلى جانب سالونيك وأقام فيها أيَّامًا لِلراحة والاستجمام، ثُمَّ عاد إلى إسلامبول. ووجد جُريج برانكوڤيچ نفسه أضعف من أن يُقاوم العُثمانيين، لا سيَّما بعد أن رفض عُمُوم الصربيين مُساعدة يُوحنَّا هونياد والمجر لهم لِاختلاف مذهبهم، حيثُ كان المجريين كاثوليكيين تابعين لِلبابا والصربيين أرثوذكسيين لا يذعنون لِسُلطة البابا بل كانوا يُفضِّلون تسلُّط المُسلمين عليهم لما رأوه من عدم تعرُّضهم لِلدين مُطلقًا. ولِذلك أبرم قيصر الصرب الصُلح مع السُلطان مُحمَّد على أن يدفع له سنويًّا جزية قدرُها ثلاثون ألف دوقيَّة.

بعد هذه الانتصارات، اشتدَّ شُعُور الناس في أوربا بِالخطر الإسلامي وتهديده، لا سيَّما وأنَّ ما يقف بِوجه العُثمانيين الآن هو مدينة بلغراد الحصينة فقط، بعد أن سقطت بقيَّة القلاع والحُصُون الصربيَّة في أيديهم، فإذا ما سقطت بلغراد، المُسمَّاة «باب المجر»، فلن يقف في سبيل الإسلام بعد ذلك شيء، وستتدفَّق جُمُوع المُسلمين على ألمانيا وما يُحيطُ بها. تجاه هذا الخطر المُحدق، راح البابا كاليكست الثالث يدعو المسيحيين إلى الانخراط في حملةٍ صليبيَّةٍ ضدَّ العُثمانيين، وكلَّف الراهب الفرنسيسكاني يُوحنَّا الكاپسترانوي  لِلتبشير بها، فأخذ الأخير يجول في إسپانيا وفرنسا وبولونيا والمجر يُلهب الحماس في صُدُور الناس بِخطبه الناريَّة ويدعوهم إلى شنِّ حربٍ صليبيَّةٍ على العُثمانيين. وشرَّع البابا لِلنصارى صلاة التبشير، فتُدق النواقيس ويتوجَّه النصارى إلى السيِّدة مريم العذراء يسألون العون ويطلبون النصر على المُسلمين، وطلب إلى الناس في جميع البلاد المسيحيَّة أن لا يغفلوا عن دقِّ هذا الناقوس صباح كُلَّ يوم والذي سمَّاه «ناقوس التُرك». وأرسل كاليكست الثالث مندوبه الكردينال يُوحنَّا أنجيلو إلى الوصيّ على عرش المجر يُوحنَّا هونياد يطلب منهُ قيادة الحملة الصليبيَّة العتيدة، فاستجاب لِهذا النداء. وهكذا تكوَّن حلفٌ صليبيٌّ ضدَّ العُثمانيين اشترك فيه هونياد، وألفونسو الخامس ملك أرغون، وفيليپ دوق بورغندية، وعددٌ من أُمراء وقادة إيطاليا والبُندُقيَّة وجنوة وألمانيا وبوهيميا وبولونيا والصرب وفُرسان الإسبتاريَّة. ولم ينتظر السُلطان مُحمَّد حتَّى يدهمه الهُجُوم، بل سارع إلى إعداد جيشٍ عرمرميّ في سبيل فتح بلغراد ومُباغتة الأعداء. وفي صيف سنة 860هـ المُوافقة لِسنة 1456م، توجَّه السُلطان في عدَّةٍ كاملةٍ وجيشٍ عظيمٍ، يُقدَّرُ تعداده بين 30,000 و100,000 جُندي بِالإضافة إلى 200 سفينة، وسار إلى فتح بلغراد، فمرَّ من جنوب بلاد الصرب إلى شمالها بدون أن يلقى أقل مُعارضة حتَّى وصل المدينة الحصينة، فحاصرها من جهة البرِّ ونهريّ الطونة وصوه، وكان هونياد قد دخل المدينة في جمعٍ عظيمٍ قبل إتمام الحصار عليها، واستعدَّ لِدفع المُسلمين عنها. وقاتل السُلطان حامية بلغراد قتالًا شديدًا مديدًا، ودافع هونياد عنها دفاع الأبطال، رُغم القصف المدفعي العُثماني لِلأسوار ومُحاولة العُثمانيين تلغيمها وتفجيرها. ويُحكى أنَّ السُلطان قاتل بِنفسه في هذه الواقعة وأُصيب بِجُرحٍ بالغٍ في فخذه، وقُتل كُلٌ من قراجة باشا وحسن آغا مُقدِّم الإنكشاريَّة ممَّا أوقع الجيش العُثماني في اضطرابٍ كبير، فيئس السُلطان من فتح المدينة ورفع عنها الحصار، وعاد إلى أدرنة خائبًا، وأتلف الصليبيُّون السُفن العُثمانيَّة التي كانت في نهريّ الطونة وصوه مع الرجال والمدافع التي فيها.

وعلى الرُغم من أنَّ العُثمانيين لم يتمكنوا من فتح بلغراد في هذه الحملة، إلَّا أنَّهم ربحوا أمرًا عظيمًا وهو إصابة هونياد بِجراحٍ بليغةٍ مات بِسببها بعد رفع الحصار عن المدينة بِنحو عشرين يومًا، وتحديدًا يوم 9 رمضان 860هـ المُوافق فيه 11 آب (أغسطس) 1456م. وفي يوم 6 مُحرَّم 862هـ المُوافق فيه 24 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1457م، أرسل عيسى بك بن إسحٰق إلى السُلطان يُعلمه أنَّ قيصر الصرب جُريج برانكوڤيچ قد تُوفي هو الآخر، وبقي ما بيده من البلاد خالية عن الحاكم والدافع، وقد دبَّت الفوضى في حُكُومة الصرب بِسبب تنازع ورثة برانكوڤيچ فيما بينهم، فأمر السُلطان بِإعداد حملةٍ أُخرى وإرسالها إلى بلاد الصرب لاستكمال فتحها. وكان السُلطان مُحمَّد قد عزل زغانوس باشا عن الصدارة العُظمى وعيَّن مكانه محمود باشا الصربي، فسيَّره في عسكر الأناضول وألفٍ من الإنكشاريَّة إلى تسخير بقيَّة بلاد الصرب، فأسرع السير وكبس أهالي تلك البلاد على حين غفلة، وفتح من الحُصُون المنيعة: «وضة» و«أمولة» و«كرويه» و«ترايجة» و«صوه»، ثُمَّ توجَّه إلى قلعة سمندريَّة وحاصرها أيَّامًا، وخرَّب نواحيها، وقُتل من حامية القلعة خلقُ كثيرٌ حين المُحاصرة. إلَّا أنَّهُ لمَّا رأى أنَّ فتحها يحتاج إلى زمانٍ مديدٍ انعطف إلى صوب بلغراد، وابتنى بِجانبها بُرجًا حصينًا لِتضييق الخناق عليها، ثُمَّ توجَّه لِلسيطرة على المناجم الواقعة في نواحي بلدة إزورنيق، ثُمَّ توجَّه لِاسترداد قلعة «گورجنيلك» التي افتُتحت زمن السُلطان مُراد الثاني وعاد الصربيُّون وأخذوها مُجددًا في وقتٍ لاحق، فحاصرها أيَّامًا وقاتل حاميتها قتالًا شديدًا حتَّى طلبوا الأمان، فأجابهم إلى ذلك واستلم القلعة، فرتَّب لوازمها من الجُنُود والمُؤمن، وعمَّرها وحصَّنها، ومكث فيها عدَّة أيَّام، وأرسل إلى السُلطان يُعمله بِفُتُوحاته وما اغتنمه، فسُرَّ الأخير سُرورًا عظيمًا.

فتح المورة :

خِلال الفترة التي استغرقها فتح مُعظم البلاد الصربيَّة، كان السُلطان قد عقد العزم على تسخير وفتح بلاد المورة لِأسبابٍ مُختلفة. فقد كانت البلاد سالِفة الذِكر مُقسَّمة بين الأميرين البيزنطيين الأخوين طوماس ودمتريوس، شقيقا الإمبراطور قُسطنطين الحادي عشر، وكان طوماس يُقيمُ في باللوبادرة (پاتراس) في حين سكن دمتريوس في إسپرطة. ولم يكن الأخوان على وفاقٍ فيما بينهما ما أدَّى إلى تدخُّل الأرناؤوطيين في شؤونهما الداخليَّة، بِالإضافة إلى أنَّهما نزعا إلى الظُلم والاستبداد وتأخَّرا في دفع الجزية المفروضة عليهما سنوات عدَّة، رُغم أنَّهما فرضا ضرائب باهظة على رعاياهما. نتيجة هذا الظُلم، ثار نحو 30,000 أرناؤوطي من أهل المورة، بِقيادة أحد النُبلاء المدعو «بُطرس البُوائي» وانضمَّ إليهم بعض الروم الناقمين على الوضع بِزعامة نبيلٍ آخر يُدعى «عمانوئيل قانتاقوزن»، وانتخبوه لِيكون أميرًا عليهم. ولم يقدر الأميران البيزنطيَّان على قمع الثورة العارمة، فالتجآ إلى السُلطان مُحمَّد يطلُبان منه العون والمدد. وازدادت الأُمُور تعقيدًا لمَّا أخذ بعض الزُعماء والأُمراء الصغار يتواصلون سرًا مع السُلطان العُثماني ويُبايعونه على السمع والطاعة في سبيل التخلُّص من تبعيَّتهم لِلأميرين الشقيقين، كما اندلعت ثورة أُخرى قام بها اللاتين الكاثوليك، أحفاد الإفرنج الذين استوطنوا شبه الجزيرة اليونانيَّة بعد الحملة الصليبيَّة الرابعة، بِزعامة يُوحنَّا أسانو زكريَّا (بالإيطالية: Giovanni Asano Zaccaria)، وهو الابن اللقيط لِآخر أُمراء آخية، سنتوريون الثاني زكريَّا (بالإيطالية: Centurione II Zaccaria)،[ِ 32] وقد ادَّعى الأحقيَّة لِنفسه في حُكم وتمثيل بقايا الكاثوليك في المورة. أضف إلى ذلك، يُروى أنَّ أحدًا من تُجَّار سيروز كان قد سار لِلتجارة إلى حُدُود المورة، فشاهد تسلُّط المسيحيين على الأقليَّة المُسلمة فيها في خضام الاضطرابات القائمة، فرقَّ عليهم وذهب إلى ركاب السُلطان مُحمَّد وعرض أحوال مُسلمي تلك الديار على العتبة العُليا، فكان هذا دافعًا إضافيًّا لِلتدخُّل العُثماني.

لم يكن بِوسع السُلطان السُكُوت عن التدخُّل الأرناؤوطي في المورة، كما لم يرضَ عن تزايُد الفوضى وظُلم السُكَّان، فكان لا بُدَّ من التدخُّل السريع لِوضع حدٍّ لِكُلِّ ما يحصل. وفعلًا، أمر السُلطان بِالتجهُّز واجتماع الجيش، وخرج في ربيع سنة 862هـ المُوافقة لِسنة 1458م، على رأس حملةٍ عسكريَّةٍ لِفتح بلاد المورة. وبعد أن أمضى شطرًا بسيطًا من الوقت في سيروز بانتظار أن ينضم إليه بقيَّم العسكر، توجَّه ودخل المورة من برزخ كورنثة، وفتح أولًا قلعة «فلكة» عنوةً، ثُمَّ قلعة كورفوس، وفتحت له قلعة «باق أوه» أبوابها سلمًا، فأجلى أهلها إلى إسلامبول، ثُمَّ فتح قلعتا «توقماق» و«منجلق» بِحد السيف، ثُمَّ فتح باللوبادرة (پاتراس) مع لواحقها، إذ كان الرُّوم قد استردُّوها بعد فتح السُلطان مُراد لها خِلال حملته الخاصَّة على المورة. وأجبر السُلطان الأرناؤوطيين على الخُرُوج من البلاد، وفرض على الأخوين البيزنطيين جزية سنويَّة قدرها خمسة آلاف دوقيَّة، وتفاهم مع النبيل «بُطرس البُوائي» الذي أصبح مُتحدثًا في البلاط السُلطاني باسم الرعيَّة الأرناؤوطيَّة، في حين هرب يُوحنَّا أسانو زكريَّا إلى البُندُقيَّة، واختفى كُلُّ أثرٍ لِعمانوئيل قانتاقوزن. وهدم السُلطان بِنيران مدفعيَّته 292 قلعة من مجموع الثلاثمائة قلعة الموجودة في المورة، وترك 8 قلاع فقط أسكن فيها حامياتٍ عسكريَّةٍ عُثمانيَّة، ولمَّا قرُب الشتاء توجَّه السُلطان إلى إسكوپية وشتى فيها. ويبدو أنَّ طوماس خضع لِلعُثمانيين على كُرهٍ منه، ولبث يترقَّب الفُرصة لِإعلان تمرُّده. وفعلًا استغلَّ هذا الأمير غياب السُلطان فهاجم أخاه دمتريوس والحاميات العُثمانيَّة في المورة، واستولى على مُدنٍ عدَّة، واستنجد هذا الأخير بِالسُلطان الذي عاد إلى المورة ودخلها، فهرب طوماس إلى إيطاليا. ومنعًا لِتجدُّد أعمال التمرُّد على الحُكم العُثماني، وضع السُلطان الإقليم تحت السيطرة المُباشرة لِلسلطنة، ونفى دمتريوس إلى إحدى جُزر أرخبيل بحر إيجة، ثُمَّ سمح لهُ بالانتقال والعيش في أدرنة. وفتح السُلطان خلال حملته هذه مدينة أثينا في سنة 864هـ المُوافقة لِسنة 1460م، على أثر حُصُول نزاعٍ عائليٍّ بين حُكَّامها، وسمح لِآخر دوقٍ من حُكَّامها اللاتينيين، وهو فرانشيسكو الثاني أكسيولي (بالإيطالية: Francesco II Acciaiuoli) بِأن يأخذ كامل ثروته ويذهب إلى إيطاليا. وفي ذلك الوقت فُتحت جزائر الأرخبيل مثل طاشوز وإمروز وغيرها، حتَّى أضحت بلاد اليونان تحت السيطرة العُثمانيَّة المُباشرة باستثناء بعض المواقع والقلاع المُتفرِّقة على الشواطئ مثل كورونة ومودونة وآرغوس وليپانت التي كان أغلبها لِلبنادقة.

الحملة الأولى على المجر :

خلال الحملة على المورة، كان السُلطان قد أمر عيسى بك بن أفرنوس بِأن يُغير على بلاد الأرناؤوط لِإشغال زُعماء العشائر وفي مُقدِّمتهم العاصي الكبير إسكندر بك، عن التدخُّل في الشُؤون الداخليَّة الموريَّة. كما أمر عيسى بك بن حسن والي ڤيدين بِالإغارة على ديار المجر، فأغارا واغتنما غنائم كثيرة. ثُمَّ أتبعهُما بِسريَّةٍ عظيمةٍ من الآقنجيَّة بِقيادة مُحمَّد بك بن منت لِاستكمال الغارات على المجر، فعبروا نهر الطونة (الدانوب) وتوجهوا إلى إقليم طراوه ونهبوا قراها وسبوا أهلها، ثُمَّ توجَّهوا إلى «رسووا» بين نهريّ الطونة وصوه، فأغاروا على نواحيها واغتنموا أشياء عظيمة من الأثقال والسبايا والمواشي، وأرسلوا جميع الغنائم بِالسُفن عبر نهر الطونة إلى الصدر الأعظم محمود باشا، الذي كان يترقبهم في قلعة گورجنيلك، كما صادفوا نحو مائتي فارسٍ مجريّ، فأسروهم جميعًا وعادوا بهم إلى السُلطان في إسكوپية، فأكرم الأخير الصدر الأعظم وسائر الأُمراء الذين شاركوا في تلك الغارة غاية الإكرام، وأراد أن يأذن لِلعسكر بِالرُجُوع إلى أوطانهم لولا أن بلغه أنَّ جمعًا من الجُنُود المجريين قد عبروا نهر الطونة من معبر بلغراد وتفرَّقوا لِلنهب ضمن الحُدُود العُثمانيَّة، فأرسل إليهم جمعًا من نُخبة العسكر الذين باغتوهم وأسروا مُقدِّمهم وقتلوا أتباعه، ثُمَّ تتبعوا المُتفرقين وقتلوا بعضهم وأسروا آخرين، ولم يفلت منهم إلَّا قليل. ولمَّا رجع الجُنُود إلى السُلطان أكرم أُمرائهم بِالمناصب العالية، ثُمَّ أذن لِلعساكر بِالعودة إلى بلادهم، ورجع هو أيضًا إلى أدرنة.

بعد ذلك قرَّر السُلطان أنَّ الوقت حان لِاسترداد سمندريَّة، وكانت قد دخلت في مُلك البُشناق بعد أن ابتاعها الملك أسطفان طوماسوڤيچ من أحد أبناء جُريج برانكوڤيچ عند وفاة الأخير. ولمَّا وصل السُلطان إلى صوفيا وصل إليه الخبر من جانب الملك البُشناقي بِأنَّهُ التمس من السُلطان أن يُعوَّضه عن سمندريَّة بِقلعة البوسنة، فلم يُجبه السُلطان إلى ذلك، واضطرَّ أسطفان طوماسوڤيچ إلى تسليم سمندريَّة صُلحًا وبلا عوض صونًا لِبلاده عن الغارة والخسارة. وهكذا، سار جمعٌ من قبل السُلطان وتسلُّموا المدينة سلمًا، وأمَّنوا أهلها على أنفسهم وأموالهم وعيالهم ودينهم. وبِذلك انتهت القيصريَّة الصربيَّة تمامًا، وأضحت الصرب جُزءًا من الدولة العُثمانيَّة، وجُعلت سمندريَّة مركز سنجقٍ جديدٍ يتبع إيالة الروملِّي، وعُيِّن علي بك ميخائيل أوغلي لِيكون أوَّل أميرٍ لِلسنجق المذكور.

المصدر : ويكيبيديا + مواقع إلكترونية.


الإبتساماتإخفاء