من هو السلطان محمد الفاتح ؟
جلس مُحمَّد الثاني على عرش الدولة العُثمانيَّة مرَّتين: الأولى بُعيد وفاة شقيقه الأكبر علاء الدين واعتزال والده مُراد الحياة السياسيَّة بعد تلقيه هزيمة نكراء على يد تحالُفٍ صليبيٍّ، فانقطع لِلعبادة في تكيَّة مغنيسية وترك شُؤون الحُكم لِولده، وفي تلك الفترة كان السُلطان الجديد ما يزال قاصرًا، فلم يتمكَّن من الإمساك بِمقاليد الحُكم إمساكًا متينًا، لا سيَّما وأنَّ الدوائر الحاكمة في أوروپَّا استغلَّت حداثة سن السُلطان ففسخت الهدنة التي أبرمتها مع والده، وجهَّزوا جُيُوشًا لِمُحاربة الدولة العُثمانيَّة، فأُجبر السُلطان مُراد على الخُرُوج من عُزلته والعودة إلى السلطنة لِإنقاذها من الأخطار المُحدقة بها، فقاد جيشًا جرَّارًا والتقى بِالعساكر الصليبيَّة عند مدينة وارنة (ڤارنا) البُلغاريَّة وانتصر عليها انتصارًا كبيرًا، ثُمَّ عاد إلى عُزلته لكنَّهُ لم يلبث بها طويلًا هذه المرَّة أيضًا، لأنَّ عساكر الإنكشاريَّة ازدروا بِالسُلطان مُحمَّد الفتى، وعاثوا فسادًا في العاصمة أدرنة، فعاد السُلطان مُراد إلى الحُكم وأشغل جُنُوده بِالحرب في أوروپَّا، وبِالأخص في الأرناؤوط، لِإخماد فتنة إسكندر بك الذي شقَّ عصا الطاعة وثار على الدولة العُثمانيَّة، لكنَّ المنيَّة وافت السُلطان قبل أن يُتم مشروعه بِالقضاء على الثائر المذكور، فاعتلى ابنه مُحمَّد العرش لِلمرَّة الأُخرى، التي قُدِّر لها أن تكون مرحلةً ذهبيَّة في التاريخ الإسلامي.
ولمَّا تولَّى مُحمَّد الثاني المُلك بعد أبيه لم يكن بِآسيا الصُغرى خارجًا عن سُلطانه إلَّا جُزءٌ من بلاد القرمان وبعض مُدن ساحل بحر البنطس (الأسود) وإمبراطوريَّة طرابزون الروميَّة. وصارت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة قاصرة على مدينة القُسطنطينيَّة وضواحيها. وكان إقليم المورة مُجزَّأ بين البنادقة وعدَّة إمارات صغيرة يحكُمُها بعض أعيان الروم أو الإفرنج الذين تخلَّفوا عن إخوانهم بعد انتهاء الحُرُوب الصليبيَّة، وبلاد الأرناؤوط وإپيروس في حمى العاصي إسكندر بك، وبلاد البُشناق مُستقلَّة والصرب تابعة لِلدولة العُثمانيَّة تابعيَّة سياديَّة، وقسمٌ كبير ممَّا بقي من شبه الجزيرة البلقانيَّة داخلًا تحت السُلطة العُثمانيَّة. وقد سعى السُلطان الشاب إلى تحقيق وصيَّة والده بِفتح القُسطنطينيَّة ورغب بِتتميم فتح ما بقي من بلاد البلقان أيضًا حتَّى تكون أملاكه مُتصلة لا يتخلَّلُها أعداءٌ وثغراتٌ أمنيَّة. وفي سنة 857هـ المُوافقة لِسنة 1453م، حاصر السُلطان مُحمَّد القُسطنطينيَّة بعد أن حشد لِقتال البيزنطيين جيشًا عظيمًا مُزوَّدًا بِالمدافع الكبيرة، وأُسطُولًا ضخمًا، وبِذلك حاصرهم من ناحيتيّ البر والبحر معًا. والواقع أنَّ البيزنطيين استماتوا في الدفاع عن عاصمتهم، ولكنَّ جُهُودهم ذهبت أدراج الريح، فما انقضى شهرٌ على الحصار حتَّى تهدَّمت بعض أجزاء الأسوار التي كانت تحمي المدينة، وتدفَّق العُثمانيُّون من خلال الثغرات إلى قلب القُسطنطينيَّة، فسقطت في أيديهم وأصبحت جُزءًا من ديار الإسلام، وشكَّل سُقُوطُ المدينة نهاية الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة بعد أن استمرَّت أحد عشر قرنًا ونيفًا، وعدَّ المُؤرِّخون الغربيُّون هذا الحدث نهاية العُصُور الوُسطى وبداية الحقبة الحديثة، ومُنذ تلك الفترة عُرفت القُسطنطينيَّة باسم "إستانبول أو إسلامبول" أو "الآستانة" ولُقِّب السُلطان مُحمَّد بـ"الفاتح"، وعُدَّ مُنذُ ذلك الوقت أحد أبطال الإسلام ومن كبار القادة الفاتحين في التاريخ. انسابت موجات الفُتُوحات الإسلاميَّة في البلقان بِقيادة السُلطان مُحمَّد بعد سُقُوط القُسطنطينيَّة، ممَّا أثار مخاوف الدُول الأوروپيَّة، فشنَّت على العُثمانيين حربًا طويلة بِزعامة جُمهُوريَّة البُندُقيَّة، وحاولت هذه القوى التحالف مع بعض أعداء السلطنة في آسيا، لكنَّ مُحمَّد الفاتح تمكَّن من هزيمة هذا التحالف، وأجبر البنادقة على توقيع مُعاهدة صُلحٍ مع العُثمانيين بعد حوالي 16 سنة من القتال.
تميَّز عهد مُحمَّد الفاتح بِالتمازج الحضاري الإسلامي والمسيحي، بعدما هضمت الدولة العُثمانيَّة الكثير من مؤسسات الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، وعملت على إحياء بعضها وصبغه بِصبغة إسلاميَّة جديدة، فانتعشت عاصمة الروم العتيقة، وأصبحت إحدى أهم المراكز الثقافيَّة في العالم الإسلامي، لا سيَّما بعدما ابتنى فيها السُلطان عدَّة مدارس ومكتبات وتكايا ومُؤسساتٍ خيريَّةٍ ووقفيَّة، وأبقى فيها الكثير من أبنائها الأصليين من المسيحيين واليهود في سبيل الاستفادة من خبراتهم، وشجَّع المُسلمين على الانتقال إليها في سبيل الاستفادة من مزاياها التجاريَّة وعلم أهلها. وقد ظهر السُلطان مُحمَّد بِمظهر راعي بطريركيَّة القُسطنطينيَّة الأرثوذكسيَّة المسكونيَّة في مُواجهة البابويَّة والكنيسة الكاثوليكيَّة. وشهد عهد مُحمَّد الفاتح أيضًا دُخُول أعدادٍ كبيرةٍ من الأرناؤوطيين والبُشناقيين في الإسلام، وقد قُدَّر لِبعض هؤلاء أن يلعب أدوارًا بارزةً في الميادين العسكريَّة والمدنيَّة في التاريخ العُثماني لاحقًا. وكان السُلطان مُحمَّد عالي الثقافة، وقد تحدَّث عدَّة لُغات إلى جانب لُغته التُركيَّة الأُم، وهي: العربيَّة والفارسيَّة والعبرانيَّة والروميَّة واللاتينيَّة والصربيَّة. كما تمتع مُحمَّد الفاتح بِمهاراتٍ إداريَّةٍ فذَّة، فأصدر الكثير من القوانين العُرفيَّة لِتنظيم الحُكم في دولته، وكان له اهتمامات وهوايات عديدة، كالبستنة وصناعة الخواتم، لكنَّ شغفهُ الحقيقيّ كان رسم الخرائط. وكان مُحمَّد الفاتح تقيًّا صالحًا مُلتزمًا بِحُدُود الشريعة الإسلاميَّة، وفي ذلك يقول المُؤرِّح أحمد بن يُوسُف القرماني: «...وَهُوَ السُّلطَانُ الضِّلِّيلُ، الفَاضِلُ النَّبِيلُ، أَعظَمَ المُلُوكِ جِهَادًا، وَأَقوَاهُم إِقدَامًا وَاجتِهَادًا، وَأَكثَرُهُم تَوَكُّلًا عَلَى اللهِ تَعَالَىٰ وَاعتِمَادًا. وَهُوَ الذِي أَسَّسَ مُلكَ بَنِي عُثمَان، وَقَنَّنَ لَهُم قَوَانِين، صَارَت كَالطَّوقِ فِي أَجيَادِ الزَّمَانِ. وَلَهُ مَنَاقِبَ جَمِيلَة، ومَزَايَا فَاضِلَة جَلِيلَة، وَآثَارٌ بَاقِيَةٌ فِي صَفَحَاتِ اللَّيَالِي وَالأَيَّام، وَمَآثِرٌ لَا يَمحُوهَا تَعَاقُب السِّنِينِ وَالأَعوَام».
حياته :
لم تقتصر إنجازات السّلطان على فتح القُسطنطينيّة، بل فتح العديد من البلدان الأُخرى، كالبوسنة وجزر اليونان وآسيا الصُّغرى وألبانيا وحارب المجر والمغول، وكان للسّلطان عددٌ من النّساء التي تزوّج بهنَّ وعددٌ من الأولاد على رأسِهم وليُّ عهده السّلطان بايزيد الثّاني وابنه جم، الذي حصل بينهما نزاعٌ على الخلافة بعد وفاة أبيهما بالسُّم على يد طبيبه يعقوب باشا المولود في إيطاليا والذي ادّعى الهداية والإسلام، فكان فقتلَه بالسم تدريجياً حتى علم بنهاية الأمر حين خرج إلى حملةٍ لم يحدّد وجهتها كعادته، فهو لم يكن يكشف مخطّطاته لأيِّ أحدٍ من قُوَّاته، وعندها زاد يعقوب باشا جرعةَ السُّم، ويرجّح المؤرخون أن الحملةَ كانت خارجةً لإيطاليا، وعندما عرف حرس الإمبراطور بأمر يعقوب باشا قاموا بإعدامه فوراً، فدُفِن السّلطان في جامعٍ في الأسِتَانة، وبقي حتّى بعد موتِه أحدَ القامات الكبيرة في العالم الإسلاميّ، والذي ما زال جميع المسلمين يعتزُّون ويفخرون به حتى وقتنا الحالي.
زوجاته وأولاده :
تزوَّج مُحمَّد الفاتح عدَّة نساء خِلال حياته وأنجب منهُنَّ جميع أبنائه وابنته الوحيدة، وكانت بعض زيجاته لِأغراضٍ محض سياسيَّةٍ، بينما كان بعضها الآخر تقليديًّا. أمَّا زوجاته وأولاده فهم:
- زوجاته :
- أمينة گُلبهار خاتون، ابنة رجل أرناؤوطي يُدعى "عبد الله"، ويُحتمل أنَّهُ من أوَّل الأرناؤوطيين الذين اعتنقوا الإسلام. تزوَّجها السُلطان سنة 1446م في مغنيسية؛- گُلشاه خاتون، أصلها أبخازي. تزوَّجها السُلطان سنة 1449م في مغنيسية قُبيل وفاة والده مُراد؛
- مُكرَّمة خاتون، بنت سُليمان بك أمير ذي القدريَّة. تزوَّجها السُلطان سنة 1449م لِأغراضٍ سياسيَّة؛
- چيچك خاتون، أميرة مملوكيَّة وُلدت في القاهرة، وتزوَّجها الفاتح في إسلامبول؛
- حنَّة خاتون، ابنة الإمبراطور الطرابزُني داود قومنين. تزوَّجها الفاتح لِفترةٍ قصيرةٍ بُعيد فتحه طرابزون؛
- خديجة خاتون، ابنة زغانوس باشا. تزوَّجها الفاتح حتَّى حين ثُمَّ طلَّقها؛
كذلك، تُشير بعض المصادر الروميَّة والغربيَّة أنَّ السُلطان تزوَّج بِأميرتين روميَّتين، الأولى هي ألكسياس قومنين خاتون التي تزوَّجها سنة 1463م بُعيد فتحه طرابزون؛ والأُخرى هي هيلانة خاتون، ابنة أمير المورة دمتريوس شقيق الإمبراطور البيزنطي قُسطنطين الحادي عشر، على أنَّ المصادر العُثمانيَّة لا تأتي على ذكر هذا الأمر.
- أبناؤه :
- بايزيد الثاني، ابن مُكرَّمة خاتون وبكر أولاد السُلطان الفاتح وخليفته على عرش آل عُثمان؛- مُصطفى (1450 - 1474، ابن گُلشاه خاتون. كان الابن المُفضَّل لدى السُلطان، وواليه على بلاد القرمان. تُوفي لِأسبابٍ طبيعيَّةٍ ودُفن في بورصة إلى جانب أسلافه)؛
- جُمّ سُلطان (1459 - 1495، ابن چيچك خاتون. نازع أخاه بايزيد المُلك ولم يقدر عليه، فطاف في الدولة المملوكيَّة أولًا ثُمَّ في أوروپَّا إلى أن أدركه الموت في مدينة كاپوة النبلطانيَّة، فدُفن في بلدة غيطة بِإيطاليا ثُمَّ نُقل جُثمانه بعد ذلك بِمُدَّة ودُفن في بُورصة إلى جانب أجداده)
- ابنته :
- جوهرخان خاتون (1454 - 1514، ابنة أمينة گُلبهار خاتون. تزوَّجت من أوغورلي مُحمَّد ابن أوزون حسن وأنجبت له وليّ عهده أبو النصر أحمد كوده. ودُفنت بِجانب والدتها في تُربتها بِإسلامبول).شخصيَّته وصفاته :
بِحسب المصادر، كان السُلطان مُحمَّد الفاتح مربوع القامة، وعريض المنكبين. جسده من الخصر إلى الأعلى طويل بِعكس النصف الأسفل من جسده؛ شأنه شأن السُلطان عُثمان الأوَّل، ووجهه أبيض مُحمرّ، وحاجباه مُقوَّسان، وشعره أجعد، ولحيته سوداء، ورقبته غليظة وقصيرة، وأنفه رفيع وطويل مُقدِّمته تتجه نحو الأسفل مثل منقار العُقاب. ولكن يبدو أنَّ هذا الوصف لِلفاتح يُصوِّره عندما تقدَّم به العُمر، لِأنَّ لا أحد تمكَّن من رسم صورةٍ له عندما فتح القُسطنطينيَّة وهو في الحادية والعشرين من عُمره، حيثُ يُعتقد أنَّ لحيته لم تكن قد نبتت بعد وقتئذٍ، وإن نبتت فستكون في بداياتها. أي إنَّ الرسَّامين لم يتمكنوا من رسم الفاتح الشاب، ولوحة جينتيلي بيليني الشهيرة تعود إلى سنوات حياته الأخيرة (أُنجزت سنة 1480م)، وفي مرحلة ضعفه الشديد بِسبب المرض، وبحسب المُنمنمات العُثمانيَّة المرسومة في وقتٍ أسبق فإنَّ الفاتح لم يكن ضعيفًا إلى الحد الظاهر في لوحة بيليني. وقد أورد الأديب والشاعر نامق كمال وصفًا لِلسُلطان مُحمَّد في مُؤلَّفه حامل عنوان "الأوراق المُتعبة"، فقال: "أَكثَرُ مَا يَلفِتُ الانتِبَاهَ فِيهِ طِبَاعَهُ، وَجَبهَتُهُ العَرِيضَةِ الصَّافِيَةِ، وَعَينَاهُ البَرَّاقَتَانِ الرَّائِعَتَان، وَأَنفِهِ المُقَوَّس الشَّبِيهِ بِمِنقَارِ الصَّقرِ فَوقَ فَمِهِ الصَّغِيرِ جِدًا دَائِم الحَرَكَةِ الأَحمَرِ نَاهِضِ الطَّرَفَينِ. كَأَنَّ تِلكَ العَلَامَاتِ حُفِرَت لِتَكُونَ دَلِيلًا وَاضِحًا عَلَى مِيزَاتِهِ العُظمَى؛ كَذَكَائِهِ الحَاد، وَنَظَرِهِ الثَّاقِب، وَحِلمِه، وَأَخلَاقِه السَّامِيَةِ المَجبُولِ عَلَيهَا، وَمُتعَتِهِ بِالإِدَارَةِ، وَمَوهِبَتِهِ الحَربِيَّةِ".كان الفاتح يكنُّ احترامًا شديدًا لِلعُلماء المُسلمين، واعتقد بِسُمُوِّ مكانة العلم. ونتيجةً لِاحترامه العُلماء فقد تزيَّا بِزيِّهم، واستبدل قُبَّعة الفراء التي كان أجداده يعتمرونها بِعمامةٍ كان يلُفَّها بِنفسه، كما ارتدى سُترةً مُطرَّزةً بِالذهب فوق أطلسٍ أحمر. ويظهر في لوحة بيليني مُرتديًا فراء من دون كُمَّين، وقفطانًا أحمر، مما يوحي أنَّ الرسم وُضع خِلال الشتاء. وكان هذا السُلطان تقيًّا صالحًا مُلتزمًا بِحُدُود الشريعة، ووُصف بِأنَّهُ كان هو نفسه من كبار العُلماء المُسلمين في عصره، فهو "سُلطانٌ عالم"، آمن بأنَّ غايته نشر الإسلام وتوسيع رُقعة ديار الإسلام، دون أن يحمل في قلبه موقفًا مُعاديًا تجاه الأديان الأُخرى، وفي هذا يقول المُؤرِّخ الفرنسي إرنست لاڤيس: "كَانَ مُحَمَّد الثانِي لَا يَحمِلُ إِطلَاقًا مَوقِفًا مُعَادِيًا تِجَاهَ الأَديَانِ الأُخرَى وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ الحُكَّامِ الأَترَاكِ وَالمَغُولِ... وَفِي أَعمَارِ إِسْتَانبُولِ، أَصبَحَ جُستِنيَانَ المُسلِم... وَكَافَّة الرُّوحَانِيَين الأُرثُوذُكسِ يَلهَجُونَ بِالامتِنَانِ لِحَارِسِ دِينِهِمُ العَجِيبِ. وَقَد أَظهَرُوا هَذَا الامتِنَانِ فِي كُلِّ مُنَاسَبَة". وصف الشاهد البُندُقيّ المدعو "جرجس دُلفين" السُلطان مُحمَّد بِأنَّهُ إنسانٌ قليل الضحك، وذكيّ، ومُجدّ، وكريم، وذو عزيمةٍ لا تلين في سبيل الوُصُول إلى غايته، وحريصٌ على قراءة الكُتُب يوميًّا. فكان يقرأ تاريخ روما، وحياة البابوات، وتاريخ هيرودوت، والكثير من كُتُب التاريخ، ويستمع لِما يُقرأ عليه. هوايته الأُخرى التي وصلت إلى درجة الشغف هي الخرائط. فكان طبَّاعو البُندُقيَّة في عصره يتسابقون لِكي يُقدِّموا لهُ خرائط تحظى بِإعجابه. وقد أمر بِترجمة كتاب الجُغرافية الشهير لِبطليموس إلى العربيَّة، وكلَّف المُعلِّم جرجس أميروتزس الطرابزُني وابنه الذي أسلم وأسمى نفسه "مُحمَّد"، بِإعداد خريطةٍ لِلعالم. كما أمر الفاتح بِإعداد خريطةٍ لِإسلامبول، وقد طُبعت في أوروپَّا في عهد السُلطان سليم الثاني، وهي من أقدم خرائط المدينة المذكورة. وأولى الفاتح اهتمامًا بِالمُوسيقى، وفي سراي طوپ قاپي كتابين مُوسيقيين كُتبا بِطلبٍ منه. لكنَّ مهارة الفاتح الفنيَّة الأساسيَّة برزت في الشعر، فكان أوَّل سلاطين بني عُثمان المُتميزين بِشعرهم، وإن لم يصل الباحثين ديوانٌ كاملٌ له، إلَّا أنَّ هُناك "دُويون" (ديوانٌ صغير) يُؤكَّد أنَّهُ يعود لِهذا السُلطان، وقد طُبع لِأوَّل مرَّة في ألمانيا سنة 1904م. وكان الفاتح ينظم الشعر بِالتُركيَّة والعربيَّة والفارسيَّة، واستخدم اسمًا فنيًّا في شعره هو "عوني".
ولم يكتفِ السُلطان مُحمَّد بِكتابة الشعر فحسب، بل أعطى مُجالسة الشُعراء، ومُبادلتهم الحديث، ورعايتهم تحت جناحيه أهميَّةً خاصَّة. ولم تقتصر رعايته هذه على الشُعراء العُثمانيين، بل امتدَّت إلى شُعراءٍ يعيشون خارج بلاده، فمن المعروف أنَّهُ أرسل نُقُودًا إلى سُلطان الشعر الشرقي في مدينة هراة، المُلَّا عبد الرحمٰن الجامي، ودعاه إلى إسلامبول، وأنَّ الشاعر علي شير النوائي أرسل بعض قصائده التي كتبها بِاللُغة الجغطائيَّة إلى الفاتح، وكان هُناك ثلاثون شاعرًا يعيشون من الرواتب التي خصَّصها لهم السُلطان. ومن هوايات الفاتح الأُخرى: صناعة الخواتم الخاصَّة بِالرُماة، وإبزيمات الأحزمة، وأغماد السُيُوف، واشتهر بِكونه بُستانيًّا ماهرًا، فقد خصَّص جُلَّ وقت فراغه لِاعتناء بِحديقة سرايه والقيام بِأعمال البستنة، وكان شغوفًا بِزراعة الأشجار والخُضراوات والأزهار. والسُلطان الفاتح هو من استحدث عادة تناول السلاطين طعامهم وحدهم، كما أنَّهُ من السلاطين النادرين الذين يُعرف ما أحبُّوه من الطعام، فكان يستلذ بِالحساء والدجاج المشوي والبيض والسمك وفطائر الجُبن ورقائق العجين والشيشبرك والسبانخ والعسل والحلاوة الطحينيَّة والبقلاوة والقشدة والمهلبيَّة والأرُز المُحلَّى والقطائف بِالحليب. وكان يميلُ إلى ثمار البحر ولا يُحب اللحم الأحمر كثيرًا. وأحبَّ من المشروبات شراب العنب بِالنعناع، والدِّبس، واللبن الرائب. وكان السُلطان مُحمَّد رياضيًّا، أولى الرياضة أهميَّةً خاصَّة، فبنى تكيَّةً لِلمُصارعين وأوقفها، وكان يتردَّد عليها بين الحين والآخر، كما كان يخرج إلى الصيد حين تسنح له الفُرصة. أضف إلى ذلك فقد أنشأ ميدانًا لِلرماية، ووضع لها قواعد في المُسابقات، وأحبَّ لعب الشطرنج.
وفاة مُحمَّد الفاتح :
يوم 26 صفر 886هـ المُوافق فيه 25 نيسان (أبريل) 1481م، غادر السُلطان مُحمَّد إسلامبول وعبر إلى أُسكُدار على الضفَّة الشرقيَّة لِلبوسفور، ونصب السرادق السُلطاني في موضعٍ يُقال له "تكفور چايري"، وشرع في الاستعداد لِحملةٍ كبيرةٍ يغلب الظن أنَّها كانت مُوجَّهة إلى إيطاليا، لكن داهمه مرضٌ مُفاجئ، وأخذ يشتد ويقوى حتَّى تُوفي السُلطان يوم الخميس 4 ربيع الأوَّل المُوافق فيه 3 أيَّار (مايو) من السنتين سالِفتيّ الذِكر. وهُناك روايتان تُحددان سبب وفاة الفاتح، واختلف المُؤرخون حول تحديد أيُّها الأصح. تنص الرواية الأولى أنَّ الفاتح كان يشكو من قدمه جرَّاء إصابته بِالنقرس، وهو المرض الوراثي لِآل عُثمان، فتشاور الأطبَّاء في حالته، فزادوا كميَّة الدواء. وعندما زاد عليه الألم أعطوه شرابًا مُسكِّنًا، فتُوفي على إثره. ولم يُشر المُؤرخون العُثمانيُّون أمثال مُحمَّد نشري أفندي ولُطفي باشا ومُحمَّد صولاق زاده وعاشق باشا زاده إلى أيِّ شيءٍ حول وفاة الفاتح مُسمَّمًا. أمَّا الرواية الأُخرى فتنص أنَّ الفاتح مات جرَّاء سُمٍّ دُسَّ له أو جرَّاء إهمالٍ طبيٍّ مُتعمَّد، فقد ذكر بعض المُؤرخين أنَّ طبيب السُلطان يعقوب باشا، الذي كان من جُملة وُزرائه أيضًا، بينما كان مُنكبًّا على علاجه، قام الصدر الأعظم مُحمَّد باشا القرماني - الذي خلف كدك أحمد باشا وكان مُمتعضًا من كون يعقوب باشا وزيرًا كونه كان يهوديًّا - بِإدخال الطبيب "لاري الأعجمي" ضمن الأطبَّاء المُعالجين، وأنَّ صحَّة الفاتح عندما بدأت تتدهور بِسُرعةٍ نتيجة الأدوية المُعطاة له وفقدوا الأمل في إنقاذ حياته، لم يتدخَّل يعقوب باشا، لِذا اعتبر هؤلاء المُؤرخين مُحمَّد باشا القرماني والطبيب لاري الأعجمي مسؤولين عن هذه الوفاة. من جهةٍ أُخرى، هُناك بعض المُؤرخين الذين يذكرون بِأنَّ يعقوب باشا تظاهر بالإسلام، وأنَّهُ كان عميلًا لِلبنادقة، وأنَّ هؤلاء قاموا بِتحريضه على قتل الفاتح عندما رأوا أنَّهُ وصل في فُتُوحاته حتَّى إيطاليا، فدسَّ لهُ السُّمَّ تدريجيًّا حتَّى فتك به. ولكنَّ بقاء يعقوب باشا واستمراره في وظيفته نفسها في عهد بايزيد الثاني يُضعفُ هذا الزعم.فتح القُسطنطينيّة :
وأمّا بعد تولّي السّلطان محمّد الفاتح الحكم مرةً أخرى بدأ بالاستعداد والتّحضير لفتح القسطنطينيّة، وهي أعظم ما قام به، فقد كأراد أن يكون هو صاحب حديث رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم – الذي قال فيه:” لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ فَلَنِعْمَ الْأَمِيرُ أَمِيرُهَا وَلَنِعْمَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الْجَيْشُ”، فجهّز الجيشَ بالجند و العُدّة كاملةً حتى أصبح عددهم يقارب الرّبع مليون جنديّاً، ودربهم تدريباً بدنيّاً ومعنويّاً كاملاً من أجل الفتح الكبير، وبدأ بتحصين مضيق البوسفور لمنع السّفن من الوصول إلى القُسطنطينيّة لدعمها، كما عقد المعاهدات مع أعدائه ليتفرَّغ لمحاربة عدوٍ واحدٍ فقط. وقام السّلطان محمّد الفاتح بعدها بالهجوم على القُسطنطينيّة، فمَهَّدَ الطّريق إليها ليتسنّى إصابتها بالمدافع، وصل إليها في السادس من أبريل عام 1453م، فحاصر القُسطنطينيّة من البرِّ والبحر وكشف عن قبر أبي أيوب الأنصاريّ، فواجه خلال الحصار مقاومةً شديدةً خاصّةً من ناحية البحر التي أغلقها البيزنطيون بالسّلاسل الحديدية، فأتى رحمَهُ الله بخطةٍ تتضمَّنُ نقلَ السَفن عبر البر فمَهَّد الطّريق لها ونقلها على ألواحٍ خشبيّةٍ مدهونةٍ بالزّيت والشّحم، وبذلك تجاوز بها السلاسل الحديدية وأكمل الحصار عليها من البرِّ والبحر. استمرّ حصار القُسطنطينيّة 53 يوماً حيث تسلَّقَ الجنود أسوارَها ودخلوها، ودخل السّلطان إليها وأعلن الأمان على أهلها، فدخل منهم عددٌ كبيرٌ في الإسلام بعدما رأوا تسامُحَه معهم وأخلاقُه، وأعطى للمسيحييّن فيها حقوقَهم جميعها، وبهذا حصلَ السّلطان محمّد الثّاني على لقبه ليُعرَف حتى يومنا هذا بمحمّد الفاتح.
المصدر : ويكيبيديا + مواقع إلكترونية.
الإبتساماتإخفاء