الخليفة المأمِون وعلم الفلك
موجز من حياة المأمون وخلافته :
هو الخليفة عبد االله بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، سابع خلفاء بني العباس. ولد سنة 170هـ، وأمه أم ولد، ويقال إنها من الفرس البرامكة، اسمها مراجل ماتت في نفاسها به.
نشأ المأمون في حجر الخلافة وقد تهيأ له أفضل وسائل التربية والتثقيف في عصره. ولاه الخليفة هارون الرشيد العهد بعد أخيه الأمين، وكان في الثالثة عشرة من عمره، وأسند إليه ولاية خراسان وما يتصل بها إلى همذان. ولما توفي الخليفة هارون الرشيد لم يف إليه أخوه الأمين بالعهد، بل قدم عليه ولده موسى في ولاية العهد. فأبى المأمون ذلك وجرت بينهما حروب وفتن، انتهت بقتل الأمين في 25 المحرم من سنة 198هـ.
وقد بويع المأمون بالخلافة وهو في الري -قرب طهران- وظل بخراسان حتى قدم بغداد في منتصف شهر صفر من سنة 204هـ. صاهر المأمون الإمام عليا الرضا وهو من أئمة أهل البيت ولاه عهده، واتخذ المأمون لباس الخضرة شعارا له -وهو لباس أهلً البيت. وأنزل أهل البيت منازل العز والكرم. توفي الإمام علي الرضا مسجونًا والمأمون بطريقه إلى بغداد، ثم بعد عودة الخليفة إلى بغداد أعاد المأمون لباس السواد وهو شعار العباسيين.
كانت وفاته لثلاث عشر ليلة بقيت من شهر رجب سنة 218هـ. بالغا من العمر ثمان وأربعون سنة وأربعة أشهر. حيث كان في آخر غزواته لبلاد الروم شمال مدينة طرسوس، إثر إصابته بالحمى.
أخلاق المأمون :
تحلى المأمون بكثير من الصفات التي امتاز بها عن كثير من الخلفاء العباسيين، من ذلك ميله إلى العفو وكراهته للانتقام. وكان يقول: "أنا واالله استلذ العفو حتى أخاف ألا أؤجر عليه. ولو عرف الناس محبتي للعفو لتقربوا إليَّ بالذنوب". ومن ذلك حبه للكرم والجود.
وقد أطلق المأمون للباحثين من أهل الجدل والفلسفة حرية الكلام، ولولا المحنة بعقيدة خلق القرآن، والتي عكرت عليه جو الحرية وأدخلته بنقيصة إكراه الناس على القول بآراء لا يعتقدون بها، وقد امتحن المأمون بعقيدة خلق القرآن جمع من الفقهاء والمحدثين وألزمهم بالقول برأيه في السنة الأخيرة من حياته. وممن نوظر وعذب على القول بهذه العقيدة الإمام أحمد بن حنبل أيام الخليفة المعتصم، ثم خرج منها الإمام أحمد بن حنبل منتصرا، ثابتا على رأيه.
علمه وثناء العلماء عليه :
تتلمذ المأمون على شيوخ الأدب واللغة في عصره كسيبويه واليزيدي ويحيى بن المبارك. ذكر ثمامة بن أشرس النميري: "ما رأيت رجلا أبلغ من جعفر بن يحيى والمأمون". خاطبه يحيى بن أكثم قائلا: "يا أمير المؤمنين إن خضنا في الطب كنت جالينوس في معرفته، أو في النجوم كنت كهرمس في حسابه، أو في الفقه كنت كعلي بن أبي طالب صلوات االله عليه في علمه". ويعلق الأستاذ موير عن عصر المأمون بقوله: "وقصارى القول: إن عصر خلافته كان بوجهه الأجمل من أزهى عصور التاريخ الإسلامي". لذا كان عصر المأمون عصر العلم في الإسلام. ولهذا قيل: "لو لم يكن المأمون خليفة لصار أحد علماء عصره".
بيت الحكمة :
أنشئ بيت الحكمة في الغالب أيام الخليفة هارون الرشيد، حيث جمع البرامكة فيه ما وقعوا عليه من الكتب الهندية والفارسية واليونانية. وقد أولى المأمون بيت الحكمة رعاية وعناية خاصة، وجعل على إدارتها سهل بن هارون وكان يتولى تنظيم خزانة المأمون. وقد قيل إن العالم الفلكي يحيى بن أبي منصور والعالم المشهور محمد بن موسى الخوارزمي كانا من المشرفين على خزنة بيت الحكمة المأمونية، وممن كان يتردد على هذه الدار للمطالعة أو النسخ أو الترجمة أو التأليف موسى بن شاكر وأولاده (بنو موسى بن شاكر).
بعثة الخليفة المأمون لحساب محيط الأرض :
سمع الخليفة المأمون أن بطليموس حسب محيط الأرض، فأحب أن يتأكد من الأرقام التي ذكرها بطليموس بطريقة عملية، فشكل بعثتين علميتين للقيام بهذا العمل. وقد أمرهما بالذهاب على مكانين مختلفين للتأكد من دقة عملهما، وكان على رأس المجموعة الأولى كل من سند بن علي وخالد بن عبد الملك المروزي، وقد كلفت بالسير في برية تدمر وواسط –الرقة- في بلاد الشام. وأما البعثة الثانية فكان فيها علي بن البحتري وعلي بن عيسى الإسطرلابي، وقد سارت في برية سنجار. وأما أخبار البعثة فقد ورد ذكرها بالتفصيل في الزيج الحاكمي لابن يونس المصري المتوفي سنة 399هـ/ 1009 م، ففي الباب الثاني يقول: "الكلام فيما بين الأماكن من الذرع. ذكر سند بن علي في كلام وجدته له أن المأمون أمره هو وخالد بن عبد الملك المروزي أن يقيسا مقدار درجة من أعظم دائرة من دوائر سطح الكرة الأرض. قال فسرنا لذلك جميعا، وأمر علي بن عيسى الإسطرلابي وعلي بن البحتري بمثل ذلك فسارا إلى ناحية أخرى. قال سند بن علي: فسرت أنا وخالد بن عبد الملك إلى بين واسط وتدمر وقسنا هنالك مقدار درجة من أعظم دائرة من دوائر سطح الكرة الأرض. قال فسرنا لذلك جميعا فكان سبعة وخمسين ميلا. وقاس علي بن عيسى وعلي بن البحتري فوجدا مثل ذلك. وورد الكتابان من الناحيتين في وقت واحد بقياسين متفقين. وذكر أحمد بن عبد االله المعروف بحبش في الكتاب الذي ذكر فيه أرصاد أصحاب الممتحن بدمشق أن المأمون أمر بأن تقاس درجة من أعظم دائرة من دوائر بسيط كرة الأرض، قال فساروا لذلك في برية سنجار حتى اختلف ارتفاع النهار بين القياسيين في يوم واحد بدرجة، ثم قاسوا ما بين المكانيين فكان نو ميلا وربع ميل، منها أربعة آلاف ذراع بالذراع السوداء التي أتخذها المأمون".
يصف نلينو هذا العمل بقوله إنه "من أجل آثار العرب في ميدان الفلكيات، ومما يدل على شدة عنايتهم لترقية العلم المحض، وعلى مهارتهم العجيبة في الأرصاد".
اهتمام المأمون بالرصد وآلاته :
ذكر حاجي خليفة في كشف الظنون أن أول رصد وضع في الإسلام كان بدمشق سنة أربع عشرة ومائتين هجري، وينقل عن صاعد الأندلسي في كتابه "طبقات الأمم" قوله: "لما أفضت الخلافة إلى عبد الله المأمون بن الرشيد العباسي، وطمحت نفسه الفاضلة إلى درك الحكمة، وسمت همته الشريفة إلى الإشراف على علوم الفلسفة، ووقف العلماء في وقته على كتاب (المجسطي) ، وفهموا صورة آلات الرصد، الموصوفة فيه، بعثه شرفه، وحداه نبله، على أن جمع علماء عصره، من أقطار مملكته، وأمرهم أن يصنعوا مثل تلك الآلات، وأن يقيسوا بها الكواكب، ويتعرفوا أحوالها بها، كما صنعه بطلميوس، ومن كان قبله، ففعلوا ذلك، وتولوا الرصد بها، بمدينة الشماسية، وبلاد دمشق، من أرض الشام سنة 214هـ. فوقفوا على زمان سنة الشمس الرصدية، ومقدار ميلها، وخروج مراكزها، ومواضع أوجها. وعرفوا مع ذلك: بعض أحوال ما في الكواكب من السيارة، والثابتة.ثم قطع بهم، عن استيفاء غرضهم، موت الخليفة المأمون في سنة 218هـ. فقيدوا: ما انتهوا إليه. وسموه: (الرصد المأموني). وكان الذي تولى ذلك: يحيى بن أبي منصور، كبير المنجمين في عصره، وخالد بن عبد الملك المروزي، وسند بن علي، والعباس بن سفيد الجوهري. وألف كل منهم في ذلك (زيجا) منسوبا إليه. وكان إرصاد هؤلاء، أول إرصاد كان في مملكة الإسلام".
مرصد دمشق :
شيد المرصد في عهد المأمون على أعلى جبل قاسيون في الجهة المطلة على الربوة وهي مدخل دمشق الغربي، وله قصة طريفة ذكرها ابن عساكر في كتابه تاريخ دمشق، فيقول: "لم يزل ملوك بني العباس تخف إلى دمشق طلبا للصحة وحسن المنظر. منهم المأمون، فإنه أقام بها وأجرى إليها قناة من نهر منين في سفح جبلها إلى معسكره بدير مران، وبنى القبة التي في أعلا جبل دي مران وصيرها مرقبا يوقد في أعلاها النار لكي ينظر إلى ما في عسكره إذا جن عليه الليل، وكان ضوؤها وضياؤها يبلغ إلى ثنية العقاب وإلى جبل الثلج".
مرصد بغداد :
شيده المأمون بالشماسية في أعلى بغداد عند محلة الصليخ إحدى محلات الأعظمية اليوم.
الفلكيون المؤسسون في العصر العباسي الأول وعصر المأمون
من أشهرهم:
1- محمد بن إبراهيم الفزاري (توفي نحو 180هـ / 796م)، وهو أول من عمل في الإسلام إسطرلابا، وصاحب كتاب "السند هند الكبير".
2- محمد بن موسى الخوارزمي (توفي بعد 232هـ / 847م)، له الجبر والمقابلة، وألف زيجا سماه "السند هند الصغير".
3- يعقوب بن إسحاق الكندي (185 - 260هـ / 801 – 873م)، فيلسوف العرب والإسلام، اشتهر بالطب والفلسفة والموسيقى والهندسة والفلك. أصاب عند المأمون والمعتصم منزلة عظيمة وإكراما. له رسالة في التنجيم، وصنعة الإسطرلاب.
4- موسى بن شاكر (توفي نحو 200هـ / 815م)، كان موسى في شبابه من قطاع الطرق، ثم تاب فدخل في خدمة المأمون وتعلم التنجيم وهيئة الأفلاك، ثم مات وأبناؤه صغار، فكانوا محل رعاية وعناية المأمون، فجُعلوا في بيت الحكمة. وقد تناهوا في طلب العلوم وبذلوا فيها الرغائب، وأنفذوا إلى بلاد الروم من أخرجها من خزائنها فأحضروا النقلة من الأصقاع فأظهروا عجائب الحكمة. كما قاموا بإكمال الزيج المصحح، وحسبوا الحركة المتوسطة للشمس في السنة الفارسية، وحددوا ميل وسط منطقة البروج في مرصدهم المبني على جسر بغداد قرب باب الطاق، وقد عول ابن يونس في زيجه المشهور على أرصادهم. ينسب إلى موسى بن شاكر كتاب "الدرجات في طبائع الكواكب".
5- يحيى بن أبي منصور: هو أحد الفلكيين المشهورين والمقربين من المأمون، عمل في بيت الحكمة وكان على الأرصاد التي كلف المأمون الفلكين بها، وقام بإصلاح وإعداد آلات الرصد. يذكر القفطي أن المأمون لما عزم على رصد الكواكب تقدم إلى يحيى وإلى جماعة أخرى، وأمرهم بإصلاح عداد آلات الرصد، ففعلوا ذلك بالشماسية ببغداد وجبل قاسيون بدمشق سنة خمسة عشرة وست عشرة وسبعة عشرة ومائتين. وبطل الأمر بموت المأمون في شهور ثماني عشرة ومائتين. وتوفي يحيى ببلد الروم. وله من التصانيف: "الزيج الممتحن" نسختان، مقالة "في عمل الارتفاع لمدينة السلام"
المصدر : موقع قصة الإسلام
الإبتساماتإخفاء