إعلان

معركة المنصورة - المعركة التي فاز بها المسلمون على الصليبيين

معركة المنصورة

معركة المنصورة - المعركة التي فاز بها المسلمون على الصليبيين

معركة المنصورة، معركة دارت رحاها في مصر من 8 إلى 11 فبراير من سنة 1250م بين القوات الصليبية (الفرنج) بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، الذي عُرف بالقديس لويس فيما بعد، والقوات الأيوبية بقيادة الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ. وفارس الدين أقطاي الجمدار وركن الدين بيبرس البندقداري. أسفرت المعركة عن هزيمة الصليبيين هزيمة كبرى منعتهم من إرسال حملة صليبية جديدة إلى مصر، وكانت بمثابة نقطة البداية التي أخذت بعدها الهزائم تتوالى عليهم حتى تم تحرير كامل الشام من الحكم الصليبي.

الوضع العام قبل المعركة :

في النصف الأول من القرن الثالث عشر كانت الدولة الأيوبية تحكم مصر والشام. في عام 1220م قام المغول بقيادة جنكيز خان بمهاجمة الدولة الخوارزمية، على بوابة العالم الإسلامي الشرقية، ودمروها مما أدى إلى تشرذم الخوارزميين وشرود أجنادهم الذين راحوا بعد زوال دولتهم يعرضون خدماتهم على ملوك الممالك الإسلامية المجاورة، وكان من أولئك الملوك السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب الذي رحب بهم واستفاد من خدماتهم خاصة في الشام. في عام 641 هـ/1244م استولى الخوارزميون حلفاء الصالح أيوب على بيت المقدس. وكان بيت المقدس في أيدي الصليبيين منذ معاهدة سنة 1229م بين الملك الكامل وفريدريك الثاني إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة إبان الحملة الصليبية السادسة والتي بموجبها تعهد فريدريك بالتحالف مع الملك الكامل ضد أعدائه ووقف الحملات الصليبية في مقابل تنازل الملك الكامل عن بيت المقدس للصليبيين.

في 17 أكتوبر 1244م شن الصليبيون هجوماً برياً ضخماً على مصر، ولكنهم هزموا هزيمة منكرة عند غزة على يد الأمير ركن الدين بيبرس وعناصر خوارزمية من جهة، والصليبيين وملوك أيوبيين من سوريا متصارعين مع السلطان الأيوبي الصالح أيوب من جهة أخرى، انتهت بهزيمة الصليبيين وحلفائهم هزيمة كبرى، مما مكن المسلمين من فرض سيادتهم الكاملة على بيت المقدس وبعض معاقل الصليبيين في الشام.

كان لسقوط بيت المقدس في أيدي المسلمين صدى قوي في أوروبا يشبه صدى سقوطها في يد صلاح الدين الأيوبي في سنة 1187م، مما جعل الأوروبيين يدعون إلى قيام حملة صليبية كبيرة تمكنهم من استعادة بيت المقدس، وكان ملك فرنسا لويس التاسع من أكبر المتحمسين للحملة الجديدة. كان الصليبيون يُدركون أن مصر التي صارت تمثل قلعة الإسلام وترسانته العسكرية ومصدر القوة البشرية الرئيسي للمسلمين، هي العائق الرئيسي الذي يعترض طموحاتهم لاسترجاع بيت المقدس، وأنهم لن يتمكنوا من احتلال كل الشام وبيت المقدس دون الإجهاز على مصر أولاً.

  • التجهيز لغزو مصر :

في نوفمبر من عام 1244م، مباشرة بعد هزيمة الصليبيين عند غزة، قام "روبرت" بطريرك بيت المقدس بإرسال "جاليران" أسقف بيروت إلى ملوك وأمراء أوروبا يطالبهم بإرسال إمدادات عاجلة إلى الأراضي المقدسة لمنع سقوط مملكة بيت المقدس بالكامل في أيدي المسلمين. وفي عام 1245م، أثناء انعقاد مجمع ليون الكنسي الأول، وبحضور روبرت بطريرك بيت المقدس، منح بابا الكاثوليك إينوسينت الرابع تأييده الكامل للحملة الصليبية السابعة التي تحمس لها لويس التاسع ملك فرنسا وكان يحضر لها، وقام بابا الكاثوليك على إثر ذلك بإرسال "أودو" كاردينال فراسكاتي للترويج للحملة في كافة أنحاء فرنسا، وفُرضت ضرائب على الناس لتمويلها، ووافقت جنوة ومرسيليا على الاضطلاع بتجهيز السفن اللازمة، أما البندقية فقد فضّلت عدم المشاركة بسبب علاقاتها التجارية الواسعة مع مصر.

كان من أهداف الحملة الصليبية السابعة، هزيمة مصر لإخراجها من الصراع، والقضاء على الدولة الأيوبية التي كانت تحكم مصر والشام، وإعادة احتلال بيت المقدس. لتحقيق ذلك، جهز الصليبيون الحملة بتأنٍ في ثلاث سنوات، وحاولوا إقناع المغول بالتحالف معهم ضد المسلمين حتى يتمكنوا من تطويق العالم الإسلامي من المشرق والمغرب مما يصعب على مصر القتال على جبهتين في آن واحد فيسهل عليهم الإطاحة بالعالم الإسلامي بضربة واحدة. قام البابا إنوسنت الرابع (بالإنجليزية: Pope Innocent IV)‏ بإرسال مبعوثه الفرنسيسكاني "جيوفاني دا بيان كاربيني" (بالإيطالية: Jovanni da Pian del Carpine) إلى خان المغول "جيوك خان" ابن أوقطاي خان وحفيد جنكيز خان، يطلب منه تحالفه مع الصليبيين. إلا أن ردّ "جيوك خان" جاء مخيباً لأمال البابا، إذ رد عليه برسالة تطلب منه الخضوع للمغول والحضور إليه مع كل ملوك أوروبا لمبايعته ملكاً على العالم. لكن إينوسينت لم يفقد الأمل فقام في مايو من عام 1247م بإيفاد "أشلين اللومباردي" (بالإنجليزية: Ascelin of Lombardy)‏ إلى القائد المغولي "بايجو نويان" في تبريز. وبدا "بايجو نويان" أكثر استعداداً للتحالف مع الصليبيين ضد المسلمين، إذ اقترح أن يقوم بمهاجمة بغداد على أن يقوم الصليبيون في ذات الوقت بمهاجمة الشام فيتمّ تطويق المسلمين، وأوفد رسولين هما "أيبك" الذي يُعتقد أنه مسيحي تركي و"سركيس" المسيحي النسطوري الذي يُعتقد أنه آشوري، إلى روما ومعهما رسالة إلى البابا تطلب من البابا الخضوع وبأن يذهب شخصيًا إلى مقر الإمبراطورية المغولية "قراقورم" عاصمة المغول من أجل "أن يسمع كل أمر موجود في الياسق (قانون صدر عام 1206م وضعه جنكيز خان، يشتمل أحكاماً تتعلق بالجزاء والعقاب من أجل نشر الأمن في أرجاء الامبراطورية المغولية)". التقى المبعوثان مع إينوسنت الرابع في عام 1248م الذي أصدر مرسوم بابوي عنوانه "طريق الحق" (باللاتينية: Viam agnoscere veritatis) عام 1248م ردا على رسالة "بايجو نويان"، يناشد فيه المغول مرة أخرى وقف قتلهم المسيحيين. بقي المبعوثان في ضيافة بابا الكاثوليك نحو عام، ثم عادا إلى "بايجو نويان" في 22 نوفمبر 1248م برسالة البابا ومعهما شكوى من البابا بأنه لم يلحظ أن "بايجو نويان" قد أقدم على فعل شيء مثمر يخدم التحالف المأمول.

  • إبحار سفن الحملة الصليبية السابعة إلى مصر :

في 24 جمادى الأولى 646 هـ، الموافق في 25 أغسطس 1248م، أبحر لويس من مرفأ إيجو-مورت (بالفرنسية: Aigues-Mortes)‏ وتبعته سفن أخرى من نفس المرفأ ومن مرسيليا. كان الأسطول الصليبي ضخماُ ويتكون من نحو 1800 سفينة محملة بنحو 80 ألف مقاتل بعتادهم وسلاحهم وخيولهم.[1][21] كان يصحب لويس زوجته "مرجريت دو بروفنس" (بالفرنسية: Marguerite de Provence)‏، وأخويه "شارل دي أنجو" (بالفرنسية: Charles d'Anjou)‏ و"روبرت دي أرتوا" (بالفرنسية: Robert d'Artois)‏، ونبلاء من أقاربه ممن شاركوا في حملات صليبية سابقة مثل "هيو دو بورجوندي" (بالفرنسية: Hugh de Burgundy)‏ و"بيار دو بريتاني" (بالفرنسية: Pierre de Bretagne)‏ وغيرهما. كما تبعته سفينة على متنها فرقة إنجليزية يقودها "وليم أوف سليزبوري" الأصغر (بالإنجليزية: William Longespée the Younger)‏ و" فير روزاموند" (بالإنجليزية: Fair Rosamond)‏. وكانت هناك فرقة اسكتلندية مات قائدها "باتريك الثاني" إيرل "دونبار" (بالإنجليزية: Patrick of Dunbar)‏ عام 1249م أثناء سفره إلى مرسيليا.

أراد الملك لويس التوجه مباشرة إلى مصر لكن مستشاريه وباروناته فضلوا القيام بوقفة تعبوية لتجميع كل السفن والمقاتلين قبل التوجه إلى مصر، فتوقف بجزيرة قبرص، حيث انضم إليه عدد كبير من بارونات سوريا وقوات من فرسان المعبد، المعروفون بالداوية، والاسبتارية التي قدمت من عكا تحت قيادة مقدميها.

أثناء توقف لويس بقبرص قام باستقبال وفد مغولي سلّمه رسالة ودية من خان المغول يعرض عليه فيها خدماته للاستيلاء على الأراضي المقدسة وطرد المسلمين من بيت المقدس. فأرسل لويس هدية لخان المغول، وكانت عبارة عن خيمة ثمينة على هيئة محراب كنيسة عليها رسم يمثل بشارة الملائكة لمريم العذراء، لترغيبه في اعتناق المسيحية. ولسوء حظ لويس، اعتبر المغول هديته رسالة تعني قبوله الخضوع لهم فطلبوا منه إرسال هدايا لهم في كل عام مما أصابه بصدمة.

توقف الحملة الصليبية في قبرص أدى إلى تسرب أنبائها إلى مصر قبل وصول سفنها إلى المياه المصرية. ويُقال أن فريدرك الثاني، الذي كان في صراع مع بابا الكاثوليك، بعث إلى السلطان أيوب يخبره بإبحار لويس التاسع لغزو مصر، مما منح السلطان أيوب فرصة للاستعداد وإقامة التحصينات.

في مايو عام 1249م ركب لويس سفينته الملكية "لو مونتجوي"، وأمر باروناته باتباعه بسفنهم إلى مصر فأبحرت السفن من ميناء ليماسول القبرصي. أثناء التوجه إلى مصر وقعت عاصفة بحرية قوية تسببت رياحها في جنوح نحو 700 سفينة من سفن الحملة إلى عكا وسواحل الشام. كان ضمن المقاتلين على متن السفن الجانحة نحو 2100 من فرسان لويس التاسع الذين كان مجموعهم نحو 2800 فارس، فتوقف لويس لوقت قصير في جزيرة المورة اليونانية حيث انضم إليه "هيو دو بورجوندي" الذي كان ينتظر هناك، ثم أبحر جنوباً صوب مصر.

  • احتلال دمياط :

أما في مصر فقد كانت أنباء عزم الفرنج على مهاجمة مصر قد وردت، فأنهى السلطان الصالح أيوب حصاره لحمص. وعاد من الشام إلى مصر على محفّة بسبب مرضه الشديد، ونزل في شهر محرم من سنة 647هـ، الموافق في أبريل عام 1249م عند قرية أشموم طناح، على البر الشرقي من الفرع الرئيسي للنيل. وأصدر أوامره بالاستعداد وشحن دمياط بالأسلحة والأقوات والأجناد، وأمر نائبه بالقاهرة الأمير حسام الدين بن أبي علي بتجهيز الأسطول، وأرسل الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، وكان أميراً في نحو الثمانين، على رأس جيش كبير ليعسكر في البر الغربي لدمياط حتى يواجه الفرنج إذا قدموا.

طلب البارونات والمستشارون من الملك لويس التمهل حتى وصول السفن الجانحة بالشام، ولكنه رفض طلبهم بحجة أن فعل ذلك سيعطي دفعة للمسلمين، كما أنه لا يوجد مرفأ في الطريق يمكن أن ترسوا فيه السفن مما قد يعرضها للجنوح إلى مناطق بعيدة بفعل الرياح القوية.

دخلت سفن الفرنج المياه المصرية ووصلت إلى شاطئ دمياط وأرست بإزاء المسلمين. راع المقاتلون الصليبيون وهم ينظرون من فوق أسطح سفنهم كثرة أجناد المسلمين على الشاطئ، وبريق أسلحتهم، وصهيل خيولهم. وأرسل لويس كتاباً إلى السلطان الصالح أيوب يهدده ويتوعده ويطلب منه الاستسلام، وكان السلطان الصالح مريضاً مرض الموت وكانت الدولة الأيوبية تحتضر معه. اغرورقت عينا الصالح أيوب بعد أن قُرئ عليه كتاب لويس ورد عليه يحذره من مغبة عدوانه وصلفه، وينبئه بأن بغيه سيصرعه وإلى البلاء سيقلبه ولما وصل رد الملك الصالح إلى لويس برفض الاستسلام قرر لويس بدء عملية الإنزال.

في فجر السبت 22 صفر سنة 647 هـ، الموافق في 5 يونيو 1249م، بدأت عملية إنزال القوات الصليبية على بر دمياط. وكانت القوات تضم نحو 50,000 مقاتل وفارس. ضُربت للويس خيمة حمراء كبيرة على الشط، ونشب قتال عنيف بين المسلمين والصليبيين انتهى بتراجع المسلمين. وفي المساء انسحب الأمير فخر الدين يوسف إلى معسكر السلطان في "أشموم طناح"، بعد أن ظن أن السلطان قد فارق الحياة لأنه لم يرد على رسائله التي بعث بها إليه بالحمام الزاجل. ترك فخر الدين دمياط خلفه بكل مافيها من سلاح ومؤونة وأقوات، ففزع السكان وفروا هم أيضاُ منها وخلفهم العربان الذين كانوا قد وضعوا في المدينة للمشاركة في حمايتها. فعبر الجنود الصليبيون إلى المدينة المهجورة، سيراً على الجسر الذي نست الحامية الأيوبية تدميره قبل انسحابها، واحتلوا دمياط بدون أن يواجهوا مقاومة، حتى أنهم قد ظنوا في بادئ الأمر أنها مكيدة من المسلمين. استولى الصليبيون على المدينة بكل ما فيها من سلاح وعتاد ومؤونة، وحصنوا أسوارها.

اغتبط الفرنج بالاستيلاء على دمياط بتلك السهولة، لكن لويس فضل التمهل في التقدم نحو الدلتا إلى أن تصل السفن الجانحة في الشام وإلى أن ينتهي موسم فيضان النيل حتى لا يسقط في غلطة الحملة الصليبية الخامسة التي أغرقها فيضان النيل. تحولت دمياط إلى مستعمرة صليبية، وعاصمة لمملكة ما وراء البحار وصار جامعها الكبير كاتدرائية، ونصب أحد القساوسة أسقفاً عليها، وأنشأت الأسواق الأوروبية، وأمسك تجار جنوة وبيزا بزمام التجارة فيها. واستقبل لويس صديقه بالدوين الثاني إمبراطور القسطنطينية، وحضرت زوجته من عكا للإقامة معه، وقد كانت قد توجهت من قبرص إلى عكا عند إبحاره إلى مصر.

أما في الجانب المصري فقد وقعت أنباء سقوط دمياط في أيدي الصليبيين كالصاعقة على الناس، وانزعج واشتد حنق السلطان الصالح أيوب على الأمير فخر الدين وقال له: "أما قدرتم تقفون ساعة بين يدي الفرنج؟". وأمر بإعدام نحو خمسين من أمراء العربان الذين تهاونوا وغادروا دمياط بغير إذن. وحُمل السلطان المريض في حرّاقة إلى قصر المنصورة، وقدمت الشواني بالمحاربين والسلاح، وأعلن النفير العام في البلاد فهرول عوام الناس أفواجاً من كافة أنحاء مصر إلى المنصورة لأجل الجهاد ضد الغزاة. وقامت حرب عصابات ضد الجيش الصليبي المتحصن خلف الأسوار والخنادق، وراح المجاهدون يشنون هجمات على معسكراته ويأسرون مقاتليه وينقلونهم إلى القاهرة. ويروي المؤرخ الصليبي "جوانفيل" الذي رافق الحملة، أن المسلمون كانوا يتسللون أثناء الليل إلي المعسكر الصليبي ويقتلون الجنود وهم نيام ويهربون بروؤسهم. ويذكر المؤرخ ابن أيبك الدواداري أن الصليبيون كانوا يخافون من العوام المتطوعين أكثر من الجنود.

في غضون ذلك، في 24 أكتوبر، وصل إلى دمياط من فرنسا "ألفونس دى بواتي" (بالفرنسية: Alphonse de Poitiers)‏ الشقيق الثالث للملك لويس ومعه إمدادات وقوات إضافية. بوصول الإمدادات تشجع الصليبيون وقرروا التحرك من دمياط. كان على لويس الاختيار بين السير إلى الإسكندرية كما اقترح "بيار دو بريتاني" والبارونات أو السير إلى القاهرة كما أصر "روبرت دو ارتوا" شقيق لويس الذي أشار إلى أنه: "إذا أردت قتل الأفعى فاضربها على رأسها". واختار لويس ضرب رأس الأفعى فأمر بالسير إلى القاهرة.

المعركة :

  • المسير نحو المنصورة :

في 20 نوفمبر 1249م، بعد نحو خمسة أشهر ونصف من احتلال دمياط، خرج الصليبيون من دمياط وساروا على البر بينما شوانيهم في بحر النيل توازيهم، وقاتلوا المسلمين هنا وهناك حتى وصلوا في 21 ديسمبر إلى ضفة بحر أشموم، الذي يُعرف اليوم بالبحر الصغير، فأصبحت مياه بحر أشموم هي الحاجز الذي يفصل بينهم وبين معسكر المسلمين على الضفة الأخرى. حصن الصليبيون مواقعهم بالأسوار، وحفروا خنادقهم، ونصبوا المجانيق ليرموا بها على عسكر المسلمين، ووقفت شوانيهم بإزائهم في بحر النيل، ووقفت شواني المسلمين بإزاء المنصورة، ووقع قتال شديد بين الصليبيين والمسلمين في البر ومياه النيل. حاول الصليبيون إقامة جسر ليعبروا عليه إلى الجانب الآخر ولكن المسلمين ظلوا يمطرونهم بالقذائف ويجرفون الأرض في جانبهم كلما شرعوا في إكمال الجسر حتى تخلوا عن الفكرة. وراحت المساجد تحض الناس على الجهاد ضد الغزاة مرددة الآية القرآنية: ﴿انفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾، فصار الناس يتواردون من أنحاء مصر على منطقة الحرب بأعداد غفيرة.

  • وفاة السلطان الصالح أيوب :

وبينما كان الصليبيون يتقدمون جنوباً داخل الأراضي المصرية اشتد المرض على السلطان الصالح أيوب وفارق الحياة بالمنصورة في 15 شعبان سنة 647 هـ، الموافق في 23 نوفمبر 1249م، فأخفت زوجته شجر الدر خبر وفاته، وأدارت البلاد بالاتفاق مع الأمير فخر الدين يوسف أتابك العسكر والطواشي جمال الدين محسن رئيس القصر، حتى لا يعلم الصليبيون فيزيد عزمهم ويشتد بأسهم، وحتى لا تتأثر معنويات الجيش والعوام. وأُرسل الأمير فارس الدين أقطاي الجمدار زعيم المماليك البحرية إلى حصن كيفا لإحضار توران شاه ابن السلطان المتوفى لتسلم تخت السلطنة وقيادة البلاد في حربها ضد الغزاة. إلا أن نبأ وفاة السلطان الصالح تسرب إلى الملك لويس بطريقة أو بأخرى، فتشجع الصليبيون أكثر وظنوا أن التحالف القيادي القائم بين شجر الدر وهي امرأة والأمير فخر الدين وهو رجل طاعن في السن لن يصمد طويلاً وسوف يتهاوى عاجلاً ومعه مصر.

  • الهجوم عبر المخاضة :

في 8 فبراير من عام 1250م دل أحدهم الصليبيين على مخائض في بحر أشموم مكنت فرقة يقودها أخو الملك "روبرت دى أرتوا" سوياً مع فرسان المعبد، وفرقة إنجليزية يقودها "وليم أوف ساليزبري" (بالإنجليزية: William of Salisbury)‏ من العبور بخيولهم وأسلحتهم إلى الضفة الأخرى ليفاجأ المسلمون بهجوم صليبي كاسح على معسكرهم في "جديلة" على نحو ثلاثة كيلومترات من مدينة المنصورة. في هذا الهجوم المباغت قُتل فخر الدين يوسف وهو خارج من الحمام مدهوشاً بعدما سمع جلبة وصياح في المعسكر فخرج ولم يلبس لأمته، وركب فرسه، وحمل على الفرنج، فجاءه سهم فقُتل. أدى الهجوم إلى تشتت الأجناد وتقهقرهم مذعورين إلى المنصورة. وبعد أن احتل الصليبيون معسكر جديلة تقدموا خلف "روبرت دو أرتوا" نحو المنصورة على أمل القضاء على الجيش المصري برمته بعد أن أخذتهم العزة وظنوا أنهم لا ريب منتصرين.

  • معركة المنصورة :

أمسك المماليك بزمام الأمور بقيادة فارس الدين أقطاي، الذي أصبح القائد العام للجيش المصري، وكان هذا أول ظهور للمماليك كقواد عسكريين داخل مصر. تمكن المماليك من تنظيم القوات المنسحبة وإعادة صفوفها، ووافقت شجر الدر -الحاكم الفعلي للبلاد- على خطة بيبرس البندقداري باستدراج القوات الصليبية المهاجمة داخل مدينة المنصورة، فأمر بيبرس بفتح باب من أبواب المنصورة وبتأهب المسلمين من الجنود والعوام داخل المدينة مع الالتزام بالسكون التام. وبلعت القوات الصليبية الطعم، فظن فرسانها أن المدينة قد خوت من الجنود والسكان كما حدث من قبل في دمياط، فاندفعوا إلى داخل المدينة بهدف الوصول إلى قصر السلطان، فخرج عليهم بغتة المماليك البحرية والجمدارية وهم يصيحون كالرعد القاصف وأخذوهم بالسيوف من كل جانب ومعهم العربان والعوام والفلاحين يرمونهم بالرماح والمقاليع والحجارة، وقد وضع العوام على رؤوسهم طاسات نحاس بيض عوضاً عن خوذ الأجناد وسد المسلمون طرق العودة بالخشب والمتاريس فصعب على الصليبيين الفرار، وأدركوا أنهم قد سقطوا في كمين محكم داخل أزقة المدينة الضيقة وأنهم متورطون في معركة حياة أو موت، فألقى بعضهم بأنفسهم في النيل وابتلعتهم المياه.

  • نتائج معركة المنصورة :

قُتل عدد كبير من القوات الصليبيية المهاجمة. من فرسان المعبد وفرسان الإسباتريه لم ينج سوى ثلاثة مقاتلين، وفنيت الفرقة الإنجليزية تقريباً عن أخرها. واضطر أخو الملك لويس "روبرت دي أرتوا" إلى الاختباء في أحد الدور، ثم قتل هو و"وليم أوف ساليزبري" قائد الفرقة الإنجليزية.

أثناء المعركة راح الفرنج على الضفة المقابلة لبحر أشموم يكدون ويجدون لإتمام الجسر حتى يتمكنوا من العبور لمساعدة فرسانهم، ولكن لما وردتهم أنباء سحق الفرسان، عن طريق بيار دو بريتاني الذي فر إليهم بوجه مشجوج من ضربة سيف، وشاهدوا بقايا فرسانهم مدبرين إلى جهتهم والمسلمين في أعقابهم، راحوا يلقون بأنفسهم في مياه النيل بغية العودة إلى معسكراتهم وكاد لويس ذاته أن يسقط في الماء. يصف المؤرخ "جوانفيل" الذي حضر الواقعة كالتالي: "في تلك المعركة أعداد كبيرة من الناس من ذوي الهيئات المحترمة ولوا مدبرين فوق الجسر الصغير في مشهد مخزي لأبعد الحدود. لقد كانوا يهرولون وهم في حالة من الذعر الشديد، وبدرجة جعلتنا لا نتمكن من إيقافهم على الإطلاق. أستطيع ذكر أسمائهم ولكني لن أفعل ذلك لأنهم صاروا في عداد الأموات". وبذلك أصبح الصليبيون في ذات الموقع الذي باتوا فيه في الليلة السابقة على الضفة الشمالية من بحر أشموم حيث أداروا عليهم سوراً وبقوا تحت هجوم مستمر طوال اليوم. وقد اتهم بعض الفرسان لويس التاسع بالجبن والتخاذل. بعد المعركة عقد فارس الدين أقطاي، القائد العام للجيوش المصرية، مجلس حرب لمناقشة أمر يتعلق بالعثور بين قتلى الفرنج على شارة تحمل علامة البيت الملكي الفرنسي، كان صاحب الشارة هو شقيق الملك لويس، "روبرت دى أرتوا" الذي لقي مصرعه في المعركة، ولكن أقطاي ظن أنها خاصة بلويس وأن العثور عليها دليل على أنه قد قُتل، فقال: "كما أن المرء لا يهاب جسداً بلا رأس، فإنه أيضاً لا يهاب قوماً بلا قائد"، فاتفق الجميع على ضرورة الهجوم الفوري على معسكر الصليبيين، فقام المسلمون في الفجر بشن هجوم واسع صمد فيه الفرنج ولكنه ألحق بهم خسائر فادحة. في هذا الهجوم فقد مقدم فرسان المعبد "وليم أوف سوناك" (بالإنجليزية: William of Sonnac)‏ إحدى عينيه، ثم فقد الأخرى في معركة فارسكور في 6 أبريل 1250م بعدها بشهرين وقُتل هناك. انطلق الحمام من المنصورة بنبأ الانتصار على الصليبيين وحطّ بالقاهرة، فضربت البشائر بقلعة الجبل وفرح الناس وأُقيمت الزينات.

وصول توران شاه واكتساح الصليبيين في فارسكور :

تحصن الصليبيون داخل معسكرهم ثمانية أسابيع آملين في انهيار القيادة في مصر حتى يتمكنوا من معاودة محاولة التقدم إلى القاهرة. لكن الحلم الصليبي لم يتحقق، وبدلاً من انهيار القيادة وصل السلطان الأيوبي الجديد توران شاه إلى المنصورة في 24 ذو القعدة سنة 648 هـ، الموافق في 28 فبراير عام 1250م، لقيادة الجيش. بوصول السلطان الجديد تنفست شجرة الدر والأمراء الصعداء وأعلن رسمياً في البلاد عن نبأ وفاة السلطان الصالح نجم الدين أيوب.

قام المسلمون بنقل المراكب وهي مفككة على ظهور الإبل وبعد تركيبها على الشط أنزلوها في مياه النيل خلف قوات لويس التاسع، وهي حيلة لجأ إليها الملك الكامل جد توران شاه في نفس المكان أثناء الحملة الصليبية الخامسة، وبذلك منعوا وصول الإمدادات والمؤن من البحر المتوسط ودمياط إلى القوات الصليبية التي صارت محاصرة وفي موقف لا تُحسد عليه، فلا هي قادرة على الاقتحام جنوباً والتقدم نحو القاهرة ولا هي مموّنة من قاعدتها في الشمال. استخدم المسلمون النار الإغريقية في تدمير مراكب الإمدادات الصليبية المتجهة من دمياط إلى قوات لويس المتمركزة جنوب المنصورة، كما تمكنوا من الاستيلاء على ثمانين سفينة صليبية، وفي يوم 16 مارس تمكنوا من تدمير قافلة كانت تتكون من اثنين وثلاثين سفينة. لم يمض وقت طويل حتى كانت قوات لويس قد أُنهكت من الحصار والهجمات المتواصلة في النهار والليل، وبدأ الجنود الصليبيون يُعانون من الجوع والمرض ويفرون إلى جيش المسلمين، بعد أن أصابهم اليأس والإحباط، بل والشك في الفكرة الدينية التي حملتهم على الانضمام إلى حملة لويس التاسع ضد بلاد المسلمين.

على الرغم من هزيمة لويس التاسع وانتهاء حلمه لبلوغ القاهرة بانحساره في مصيدة جنوب المنصورة، بقوات جائعة ومريضة وخائفة، إلا أنه عرض على المسلمين أن يسلمهم دمياط في مقابل تسليمه بيت المقدس وأجزاء من ساحل الشام. وهو عَرض كان قد اقترحه السلطان الأيوبي الصالح أيوب على لويس بعد احتلاله دمياط. ورفض المسلمون عرض لويس لإدراكهم أن وضعه العسكري لم يعد يؤهله لوضع شروط أو عقد صفقات. وبذلك أصبح أمام لويس التاسع اختيار واحد ألا وهو الفرار إلى دمياط وإنقاذ نفسه وجنوده.

في 5 أبريل من سنة 1250م، في جنح ظلام الليل، بدأت قوات الصليبيين رحلة الهروب إلى دمياط. ومن شدة العجلة والارتباك، نسى الصليبيون أن يدمروا جسراً من الصنوبر كانوا قد أقاموه فوق قناة أشموم. عندما أحس المسلمون بحركة الصليبيين، عبروا فوق الجسر وراحوا يطاردونهم ويبذلون فيهم السيوف من كل جانب حتى وصلوا إلى فارسكور حيث تم تدميرهم بالكامل ووقع الملك لويس وأمراؤه ونبلاؤه في الأسر بدار ابن لقمان في يوم 6 أبريل من نفس العام.

في تلك الغضون كان الصليبيون يروجون شائعة في أوروبا تزعم أن الملك لويس التاسع هزم سلطان مصر في معركة عظمى تبعها سقوط القاهرة في يده. بعدما وصلت أنباء هزيمة لويس التاسع ووقوعه في الأسر ذهل الناس في فرنسا ونشأت حركة هستيرية عرفت باسم حملة الرعاة الصليبية تسببت في قتل قساوسة ورهبان في فرنسا وإلقائهم في نهر السين بحجة عدم مساعدتهم للويس الأسير.

النتائج المباشرة لهزيمة لويس التاسع :

تحققت نبوءة الصالح أيوب بأن بغي لويس التاسع سيصرعه وإلى البلاء سيقلبه. استناداً إلى المصادر الإسلامية قُتل في حملة لويس التاسع ما بين 10 آلاف و 30 آلف من الجنود الصليبيين. أُسر لويس التاسع في "منية عبد الله"، المعروفة بميت الخولي عبد الله الآن، بعد أن استسلم مع نبلائه للطواشي جمال الدين محسن الصالحي، وأُودع مغللاً في بيت القاضي إبراهيم بن لقمان، كاتب الإنشاء، تحت حراسة طواشي يدعى صبيح المعظمي. كما أُسر أخواه "شارل دانجو" و"ألفونس دو بويتي" وعدد كبير من أمرائه ونبلائه وقد سجن معظمهم معه في دار ابن لقمان. أما الجنود العاديون الذين أسروا فقد أقيم لهم معتقل خاص خارج المدينة. وأرسلت غفارة لويس التاسع إلى سوريا مع كتاب توران شاه ببشارة النصر، وكتب في ذلك أحد الشعراء:
فلا زال مولانا يبيح حمى العدى         ويلبس أسلاب الملوك عبيده.
سُمح للويس التاسع بمغادرة مصر مقابل تسليم دمياط للمصريين، والتعهد بعدم العودة إلى مصر مرة أخرى، بالإضافة إلى دفعه فدية قدرها 400 ألف دينار تعويضاً عن الأضرار التي ألحقها بمصر. فدفع نصف المبلغ بعد أن جمعته زوجته في دمياط، ووعد بدفع الباقي بعد وصوله إلى عكا، وهو مالم يفعله بعد أن تهرب من الدفع فيما بعد.

في 3 صفر 648هـ، الموافق في 8 مايو عام 1250م، بعد احتلال دام أحد عشر شهراً وتسعة أيام، سلم لويس التاسع دمياط وغادرها إلى عكا مع أخويه و12,000 أسير كان من ضمنهم أسرى من معارك سابقة. أما زوجته "مرجريت دو بروفنس" والتي كانت في غضون ذلك قد أنجبت طفلأ في دمياط أسمته "جان تريستان" (بالفرنسية: Jean Tristan)‏ أي "جان الحزين"، فقد غادرت دمياط مع وليدها قبل مغادرة زوجها ببضعة أيام. وكانت مرجريت تعاني من كوابيس مرعبة أثناء نومها، وتتخيل أن غرفتها تغتص بالمسلمين، فكانت دائماً تصرخ في الليل: "أغيثوني.. أغيثوني". أما "جان ترستان" فقد مات مع لويس التاسع في سنة 1270م أثناء الحملة الصليبية الثامنة على تونس، وهي الحملة التي كان من أهدافها تحويل تونس إلى قاعدة صليبية ينطلق منها لويس التاسع لمهاجمة مصر مرة أخرى. مع أن قسمه بعدم العودة إلى مصر كان أحد شروط إطلاق سراحه.

وكتب أحد الشعراء المسلمين ضمن أبيات تسخر من نهاية حملة لويس التاسع:
أتيت مصر تبغى ملكــــها               تحسب أن الزمر يا طبل ريح
فساقك الحين إلى أدهـــــم               ضاق بك عن ناظرك الفسيح
و كل أصحابك أودعتهــم               بحسن تدبيرك بطن الضريح
ألهمك الله إلـــى مثلــــــها               لعل عيسى منكم يستريح
وقل لهم إن أزمعوا عودة               لأخذ ثأر أو لفعل قبيح
دار ابن لقمان على حالها               والقيد باق والطواشي صبيح
لم يعد لويس إلى وطنه فرنسا بل آثر البقاء في مدينة عكا بعد أن سمح لأخوته ومعظم نبلائه بالسفر إلى فرنسا، وحمّلهم رسائل إلى ملوك أوروبا يطلب فيها النجدة والمدد علّه يتمكن من إحراز نصر في الشام يمسح به وصمة الفشل والهزيمة التي لحقت به في مصر. لكنه اضطر للعودة إلى فرنسا بعد أربع سنوات بعد أن توفيت والدته "الملكة بلانش" التي كانت تدير شئون الحكم في فرنسا وقت غيابه.

على الرغم من الهزيمة الساحقة التي مني بها لويس وجيشه والأعداد الغفيرة من قتلاه وجرحاه وأسراه، وعلى الرغم من أنه لم يتمكن من الوصول إلى "رأس الأفعى" في القاهرة، بل لم يتمكن من الاستيلاء على المنصورة وفرّ في النهاية بقواته ووقع في الأسر وقُيد بالسلاسل مع باروناته، ووُضع في السجن تحت حراسة خاصة وليس أميراً كما كانت التقاليد، وكاد أن يُقتل لولا موافقة شجرة الدر والمماليك على إطلاق سراحه مقابل دفع دية، إلا أن بعض المؤرخين الغربيين أشاروا إلى أن لويس انتصر في معركة المنصورة، مُعتبرين الهجوم الخاطف على معسكر المسلمين في جديلة وصمود لويس عند الجسر أثناء فرار فرسانه انتصاراً وأن هذا الصمود هو معركة المنصورة، هذا رغماَ من أن بعض الفرسان الفارين اتهموا لويس بسبب توقفه عند الجسر بالجبن والتخاذل. وأضافوا أن استسلامه في فارسكور كان نتيجة لخيانة جندي صليبي رشاه المسلمون كي يصيح في الجنود على لسان لويس بإلقاء السلاح والاستسلام. وأضافوا أن المسلمين طلبوا منه بعد القبض عليه أن يوافق على تنصيبه سلطاناً على مصر ولكنه رفض في عزة وكبرياء، متحججاً بأنه في حالة تنصيبه سلطاناً سيضطر إلى تخيير رعيته المسلمة بين اعتناق المسيحية أو القتل.

ويُعبِّر وصف المؤرخ الصليبي "ماثيو باريس"، المتوفي عام 1258م، الذي سجله في كتابه بعد أحداث معركة المنصورة، عن مدى الألم الذي شعر به الصليبيون بعد هزيمتهم: "كل الجيش المسيحي تمزق إرباً في مصر، وا أسفاه، كان يتكون من نبلاء فرنسا، وفرسان الداوية والاسبتارية وتيوتون القديسة ماري وفرسان القديس لازاروس". عززت هزيمة القوات الصليبية في المنصورة اسم تلك المدينة المرتبط بالانتصار والذي يرجع إلى تاريخ أقدم من الحملة الصليبية السابعة.

النتائج التاريخية لهزيمة الصليبيين :

واجهت الحملة الصليبية السابعة على مصر نهايتها المأساوية في فارسكور في عام 1250م مُعلنة عن بدء عصر تاريخي جديد لكل القوى الإقليمية التي كانت متواجدة في تلك الفترة. هزيمة الحملة الصليبية السابعة في مصر أثبتت مرة أخرى مكانة مصر كقلعة وترسانة عسكرية للإسلام في تلك الأيام. الحملة الصليبية السابعة كانت آخر حملة صليبية منظمة على مصر. لم يتمكن الصليبيون من تحقيق حلمهم باحتلال بيت المقدس مرة أخرى، وفقد ملوك أوروبا، باستثناء لويس التاسع، اهتمامهم بإطلاق حملة صليبية جديدة.

ولكن مباشرة بعد رحيل لويس التاسع إلى عكا، اغتيل السلطان الأيوبي توران شاه بفارسكور بأيدي ذات المماليك الذين دحروا الصليبيين في المنصورة وفارسكور، ليصبحوا منذ ذلك الحين حكاماً لمصر وبعد قليل حكاماً للشام.

بعد هزيمة الصليبيين في سنة 1250م توزعت الخريطة السياسية والعسكرية في شرق حوض البحر المتوسط على أربع قوى أساسية: المماليك في مصر، الأيوبيون في الشام، الصليبيون في عكا وساحل الشام، مملكة قليقية الأرمينية، وإمارة أنطاكية الصليبية.

بينما تحول المماليك في مصر والأيوبيون في الشام إلى عدوين لدودين، تحالف صليبيو عكا وأرمن قليقية وصليبيو أنطاكية. من مقر إقامته في عكا حاول لويس مناورة مماليك مصر، مستغلاً الصراع الناشب بينهم وبين بقايا الدولة الأيوبية في الشام. بمجرد وصول لويس إلى عكا وفد إليه مبعوث من الناصر يوسف  ملك دمشق طالباً إقامة تحالف أيوبي-صليبي ضد مماليك مصر. ولكن لويس رفض بسبب خوفه على مصير أسراه المحتجزين في مصر، ولمعرفته أن مصر قوة لا يُستهان بها وفي ذاكرته هزيمته في مصر وهزيمة التحالف الصليبي مع أيوبي الشام في سنة 1244م والذي أدى إلى سقوط بيت المقدس بالكامل في أيدي المسلمين. ولكن بعدما أرسل الناصر يوسف رسالة إلى لويس توحي باستعداده لتسليمه القدس في مقابل مساعدته ضد السلطان عز الدين أيبك في مصر اهتم لويس بالأمر وأرسل إلى أيبك موفوده "جون أوف فالنسينس" (بالإنجليزية: John of Valenciennes)‏ يحذره من أنه سيضطر إلى التحالف مع دمشق ضده في حالة عدم الإفراج عن الأسرى الصليبيين المحتجزين في مصر. لم تؤد تلك المشاريع التحالفية إلى شيء ذي أهمية - باستثناء موافقة أيبك على الإفراج عن الأسرى والتنازل عن بقية الفدية المطلوبة من لويس في مقابل منع الناصر محمد من الاقتراب من حدود مصر، ولكنها كانت تنذر بسقوط بني أيوب في الهاوية بعد كل إخفاقاتهم وصراعاتهم الداخلية، وفقدانهم كل مبررات بقائهم في حكم المنطقة العربية الإسلامية، مما أدى في النهاية إلى بزوغ نجم دولة المماليك كقوة عسكرية مخلصة، تذود عن الإسلام وتجاهد الغزاة ولا تهادنهم ولا تتنازل لهم عن أراضي المسلمين ومقدساتهم، وكذلك كان حال الأيوبيين وقت بزوغ نجمهم في عهد صلاح الدين الأيوبي.

في تلك الغضون كانت الجيوش المغولية آخذة في التوغل في الجانب الشرقي من أوروبا والعالم الإسلامي. الصليبيون وحلفهم كانوا يأملون في التحالف مع المغول ضد العالم الإسلامي. في عام 1247م خضعت مملكة قليقية بإرادتها للمغول وفي عام 1254م، بعد أربع سنوات من فشل الحملة الصليبية السابعة، قام "هتوم" ملك أرمينية الصغرى بزيارة "قراقورم" عاصمة المغول، في منغوليا. في عام 1253م أرسل لويس التاسع من عكا الكاهن الفرنسيسكاني "وليم أوف روبروك" (بالإنجليزية: William of Rubruck)‏ إلى عاصمة المغول للتشاور. وكان وليم هذا يصحب لويس في مصر أثناء حملته عليها. فقد كان من ضمن أهداف الحملة الصليبية السابعة على مصر بقيادة لويس التاسع إنشاء حلف صليبي-مغولي ضد العالم الإسلامي.

في عام 1258م دمر المغول بغداد التي كانت مركزاً هاماً من مراكز العلم والثقافة في العالم الإسلامي وأسقطوا الخلافة العباسية ثم احتلوا سوريا، وقبل أن يتوجهوا إلى مصر ذهب إليهم المماليك وهزموهم عند عين جالوت وأوقفوا زحفهم. وقتل القائد كتبغا الذي اشترك في تدمير بغداد، وقاد جيش المغول في عين جالوت، وكان مسيحياٌ يتبع كنيسة المشرق، وقد صحبه في عين جالوت كل من أمير أنطاكية الصليبية، وملك أرمينية الصغرى. وكان الناصر يوسف في آخر إخفاقات الأيوبيين قد حاول التحالف مع المغول ضد مصر، بنصيحة وزيره صديق المغول زين الدين الحافظي، وسيراً على نهج المغيث عمر ملك الكرك الأيوبي، ولكنهم قتلوه بعد هزيمتهم. وقام مماليك مصر بتحرير الشام من المغول، وزالت دولة الأيوبيين تماماً. وأصبح المماليك، الذين تشكلت دولتهم في رحم الأخطار، حكاماً لمصر والشام، والقوة المهيمنة على شرق وجنوب البحر المتوسط لعقود طويلة من الزمان. ومع ذلك، على الرغم من هزيمة الصليبيين والمغول، إلا أن الحروب أنهكت المسلمين اقتصادياً وبشريا، وأدى الاجتياح المغولي إلى اضمحلال العالم الإسلامي اضمحلالاً شديداً، ذلك أن المغول قتلوا أعداداً غفيرة من علماء المسلمين ودمروا المكتبات بما فيها من أعمال وإنجازات علمية لا تُعوض، فانمحى بذلك جزء كبير من التراث الثقافي والعلمي للمسلمين.

هذه المعلومات تم تجميعها من موسوعة ويكيبيديا.


الإبتساماتإخفاء