إعلان

قصة العجوز والطريق

قصة العجوز والطريق

قصة العجوز والطريق

فيما كنت أتمشى وكلبي بجانب التلة محاولا مجاراة سرعته بصعوبة صعودها، وعندما بلغنا الجائب الآخر من التلة وقع بصري على حافلة المواصلات العامة تقف في المحملة المجاورة. رأيت الر جل العجوز لم أكن أعرف اسمه - على الرغم من أنني أستطيع تمييزه من شكله إلى حد ما، لمحته وهو يمر من خلف الحافلة، ثم وهو يقف إلى جانب الرصيف رافعا رأسه يذخلر بعينين طارفتين نصف مفتوحتين إلى شمس الأصيل، ثم يشيح بوجهه وهو يفرك عينيه وكان يبدو كما لو كان أحول، وفو نفى الوقت بدا يهم بعبور الشارع. وفجأة ظهرت سيارة (فان) نوع هايلوكس تنطاق مسرعة صوب الرجل قادمة عبر انحناءة الشارع الذي يطوق التلة كما الأفعى. 

حاولت أن أصيح محذرا الرجل العجوز، لكن يا للهول كانت محاولتي مأخره جدا، هفي جزء من الثانية صدمته السيارة المنحدرة من قمة التلة كما الإعصار، كانت صدمة عنيفة، قذفت به إلى جانب الحاجز الحجري عند حافة الشارع، حيث ارتطم بشدة ثم تدحرج وتقلب حتى استقر بلا حراك عند ممر المشاة. كان مشهدا دراميا مريعا، اختلط صوت الارتطام بصوت صرير عجلات السيارة وهي تحاول جاهدة تفاديه، ثم رأيت السيأرة تتوقف بعنف إلى جانب الشأرع، فترجل منها رجل قوي البنية، كان اشعث مغبرا يبدو من ثيابه التي لملخها أثار الإسمنت أنه عامل بناء أو ممن يشتغلون فو صب الخرسانة المسلحة. 

عبرت الشارع ثم ربطت مقود كلبي حول إحدى أعمدة السياج... انحنيت أحدق ؤ الر جل العجوز الملقى على الأرض، كان ممددا بلا حراك... اقترب منا عامل البناء وأنحنى يتفحص الرجل وقال لي: 

- لم أره، لقد فوجئت به يركض نحوي مباشرة! 
- نعم، شاهدته وهو ير كض نحوك، من الأفضل استدعاء الإسعاف. 

أخرج هاتفه النقال من غمده الجلدي واتصل بالطوارئ ... سمعته يعطي وصفا دقيقا ما حدث، ثم أغلق هاتفه... انحنيت أكثر على الرجل العجوز ثم قلت: أعتقد أنه ينبغي تمديده على أحد جانبيه. 

- هل تظن أنه ما يزال حيا؟ 
- لا أدري.. يبدو لي أنه لا يتحرك. 

دفعته برفق معدلا وضعه، نعم ... إنني أعرف هذا الرجل. إنه الرجل المجوز الذي كان يقضي جل يومه يهيم الطرقات. منقبا حاويات النفايات عن الملمام وبعض المخلفات الأخرى. غير أن الأغرب من ذلك أن الكل يعلم أنه ثري جدا... لكنه لم يكن يغتسل بانتظام، لذلك يمكنك أن تشم رائحته من مسافة عشرة أمتار تقريبا. وهاأنذا الآن أشتمها، يا لها من رائحة نتنة!! بدا وجهه كأنه لم يعرف شفرة الحلاقة أبدا، وشعره الخشن يكاد يلامس عينيه المتسختين، وقد تركت السنوات العجاف آثارها الثقيلة على وجهه المجعد. كان من الصعب تقدير عمره، لكن دعنا نفترض أنه في العقد السابع. اقترب عامل البناء مني أكثر ثم ابتدرني قائلا: 
- لا يتنفس، أليس كذلك؟ 
أعتقد ذلك، هل تعرف كيف تجري له تنفسا اصطناعيا؟ 
- ليس لدي أدنى فكرة عن ذلك، مادا عنك؟ 

لم أقل شيئا لبرهة من الوقت، كنت أعرف مبادئ عملية التنفس الاصطناعي، لقد شاركت في دورتين منذ مدة طويلة جدا. لكنني الآن وأنا أحدق في الرجل العجوز المتسخ، لم تكن فكرة محاولة إجراء التنفس الاصطناعي فكرة محببة إلى نفسي. إلى جانب أنني لم أكن متأكدا مما يجب علي فعله بالضبط. كنت مرتبكا، وأصدقك القول إنني لم أجهد نفسي ف أي محاولة تذكر لتذكر الطريقة، فقلت لعامل البناء: 
- لست متأكدا، أعتقد أنه يجب الضغط على الصدر... لست متأكدا تماما. أعتقد أنه من الأفضل انتظار الإسعاف. 

من الأفضل ألا أحشر نفسي فز أمر أنا لست متأكدا منه وليست كي فيه ناقة ولا جمل، لكني نظرت إلى أسفل، إلى حيث الرجل العجوز مضطجع على الأرض بلا حراك. وتساءلت في نفسي إن كان سيموت قبل وصول الإسعاف. كان وجهه يميل إلى الزرقة فقد كنت على الأقل أعلم أن أول شيء يجب علي فعله هو تمديد المصاب على أحد جائبيه، ثم إمالة الرأس إلى الوراء قليلا. لكنني إذا فملت ذلك ينبغي علي تطبيق الخطوة التالية والمهمة وهي منحه قبلة الحياة، وكأن مجرد التفكير في ذلك يبعث القرف والاشمئز از والغثيان إلى نفسي، فقلت: 
- أعتقد أنه لا يتنفس، ربما يكون لسانه قد انحشر فأغلق مجرى التنفس، أو ما شابه ذلك ... لا أدري. 
- أمل رأسه إلى الوراء قليلا. 

وضعت أذني بالقرب من فمه لأسمع ما إذا كان يتنفس، لا شيء ... لكن الأمر المؤكد أنني أستطيع أن أشم رائحته الكريهة. بدأت أشعر بالقلق، وكنت أعلم علم اليقين أن بإمكاني إجراء تنفس اصطناعي له، قد لا تكون المحاولة على النحو الصحيح، لكن قد تنقذ حياته. وبدلا من ذلك شعرت بحرج عظيم وأنا أفكر فقط... مجرد تفكير في وضع فمي في فمه... ذلك الفم الذي يحمل تلك الأسنان السمراء اللون، والذي تنبعث منه تلك الرائحة الكريهة. ربما أصاب بالإيدز أو بمرض داء الكبد الوبائي من نوع (ب). غير أن الأمر أكير من ذلك، إنه يتعلق بمفهوم ملا مسة فمي لفمه، عملية التنفس - فم لفم رجل عجوز على درجة عالية من النتانة ... ببساطة لا أعتقد أن بإمكاني إجراء هذه العملية. أضف إلى ذلك: من المؤكد أن الإسعاف لن يتأخر. ومن يدري، فقد يكون قد توي سلفا، إذن فما الفائدة من وضع فمي في فمه!! ابتدرني عامل البناء قائلا كأنه قرأ أفكاري مؤكدا على أنها تمنعي. 

- يا إلهي تصدر منه رائحة كريهة.
- نعم، إنه يقضي جل وقته في نبش النفايات. 
- أوتعرفه؟ 
- شيء من هذا القبيل، لقد رأيته مرارا في الجوار، أتمنى ألا يتأحر الإسعاف، ربما سيتوفى ف غضون الوقت الذي سيستغرقه الإسعاف ففي الوصول إلى هنا. 

في هذه الأثناء مرت امر أة أربعينية بجانبنا، كانت قد خرجت للتو من منزل مجاور، راعها منظر الرجل العجوز، فقالت بنبرة ممزوجة بالقلق والشفقة: 
- هل هو بخير؟ 

أجبتها دون أن أرفع رأسي: 
- لا أعتقد... يبدو أن تنفسه قد توقف. 
- فليقم إذن أحد ما بإجراء تنفس اصطناعي له... عن طريق الفم. 

لقد رأيت ذلك في التلفزيون، هل تعرف كيف تقوم بذلك؟ 

وبنبرة حازمة أجيتها بالنفي، إلا أن عامل البناء حد جني بنظرة مريية، ثم قال بنبرة لينة وبصوت يميل إلى الهمس: 
- لا ألومك يا أخي. 

لم تسمع المرأة ذلك. كنت أشعر وهتها أن وجهي يحمر خجلا، كنت أدرك في قرارة نفسي أنه كان ينبغي أن أحاول إنقاذ حياته، لكنني لم أطق وضع فمي ف فمه. ونظرت إلى الأسفل مرة أخرى لعلني أعيد النظر في هذا الأمر. كنت أستمليع رؤية أسنان مهشمة بنية اللون من فرط تراكم الأوساخ، وكنت أرى أيضا لحية خشنة يلتصق شعرها بعضه ببعض بسبب الوسخ، وسبلة بيضاء لم تحلق منذ زمن طويل. قررت التزام الصمت محاولا إخلاء نفسي من هذه المسؤولية... دثت المرأة مني أكثر، وقالت: 
- قد يتوفى قبل وصول الإسعاف إذا لم يكن قادرا على التنفس. 
- لقد كنت أتمشى مع كلبي فقط، ربما يوجد طبيب في الجوار. 
- نعم إن عيادة الطبيب فز المركز التجاري، سوف أدخل إلى منزلي للاتصال به. 

وابتدرها عامل البناء هائلا: 
- لدي هاتف جوال هنا، ما هو الرقم؟ 
- سوف أدخل عالا للبحث عن الرقم. 
- سوف آتي معك. 

رافقها الرجل إلى منزلها. فيما وقفت بجانب جسد الرجل المسجى، آملا أن يمر بنا شخص يعرف طريقة إجراء التنفس الاصطناعي. أين الناس؟ لماذا لا يهب أحد لمساعدته؟ 

استلزم وصول الإسعاف حوالي خمس عشرة دقيقة... كنا أر بمة أشخام نقف إلى جانب الرجل العجوز نحدق فيه ببله مقيت. تراجعت إلى الوراء ووقفت بعيدا أراقب رجل الاسعاف وهو يجذب أداة بلاستيكية بسرعة ويجري بوساطتها عملية التنفس الاصطناعي للرجل العجوز. تراجعت إلى الوراء حتى وصلت إلى السور وجلست بالقرب من الحاجز حيث ربطت كلبي أراقب الوضع عن كثب، تلا ذلك وصول الشرطة، ثم توافد عدد غير قليل من المتفرجين. لماذا لم يأتوا من قبل حينما كان وجودهم ضروريا للمساعدة؟ كان عامل البناء يتحدث إلى رجال الشرطة، ثم رأيته ي تلك الأثناء يشير بيده ناحيتي. تقدم نحوي أحد رجال الشرطة وسألني إن كنت رأيت ما حدث. قلت له: 
- نعم، لقد شاهدت الرجل وهو ينزل من الحافلة. ولاحظت أنه يبدو كما لو أنه فوجئ بأشعة الشمس مسلطة على عينيه، ثم شاهدته يتقدم فجأة اتجاه التايوتا. وحاول سائق السيارة جاهدا تفاديه، لكنه لم يفلح. 

دون الشرطي كل تطك التفاصيل، إلا أنني كنت أجد صعوبة بالغة التركيز، وأنا أحاول الاستماع إلى رجال الإسعاف ف الوقت نفسه. وأخيرا سمعت أحدهم يقول: 
- اقد تسبب لسانه في اختناقه. لو قام شخص بتعديل وضعيته إلى أحد جانبيه، لربما كان الآن على قيد الحياة. 

وضعوه على النقالة، ثم حملوا الجثة إلى سيارة الإسعاف... بدأت الجمهرة تخف بالتدريج.. فرغ الشرطي من استجوابي، وقمت بفك وثاق الكلب محررا مقوده، وغادرت المكان مع كلبي، وطفقت أحدث نفسي مرارا وتكرارا: 
- كان بإمكاني إنقاذه... كأن بإمكاني إنماذه! 

كنت أتخيل الرجل العجوز خلالى الأيام القليلة التي أعقبت الحادثة. وكيف طاوعتني نفسي على تركه يموت دون أن أحاول تقديم المساعدة له من أجل إنقاذ حياته وما ذلك إلا بسبب عجرفتي، وشعوري بالتعالي ونفوري وكرهي وخشيتي من التلوث بقذارته. شعرت حينها بالاشمئزاز من نفسي ومن تصرف الأرعن، وبدأت أفكر كيف سيكون الوضع إذا ترك أحد ما جدي مثلا يختنق بلسانه حتى الموت بحجة أنه لا يريد التعامل مع رجل نتن الرائحة؟ إن ذلك الرجل العجوز كان أبا وجدا، وفي وقت قريب سوف أعرف المزيد عنه. 
تلقيت بعد أربعة أيام من تلك الحادثة مكالمة هاتفية: 
- هل أنت ريجي غرين؟ 
- نعم، معك ريجي غرين، تفضل. 
- مر حبا، لقد حاولت جاهدا تعقبك وذلك من أجل دعوتك للمشاركة في مراسم جنازة هاري دير. 
- متى ستقام مراسم الدفن؟ 
- بعد غد... الساعة العاشرة صباحا، ف الكنيسة الإنجيلية. أرجو أن تشرفنا، لأنني أود مقابلتك لأمر مهم. 
- حسنا، ف الواقع أنا لا أهتم كثيرا بالمشاركة الجنازات، لكنني أشعر أنني خذلت هاري، ولا أريد أن يحدث أي تقصير أخر من قبلي... حسنا سوف آتي، بالمناسبة كيف استطعت العثور علي؟ 
- في الحقيقة تحدثت مع رجال الإسعاف، ثم تحدثت مع بعض الناس الذين يعيشون في الجوار. لقد تعرف بعضهم عليك. هل لديك أي مانع؟ 
- لا، لا، إنه مجرد حب استطلاع. 

وهكذا ذهبت لأشارك فو مراسم الجنازة، جلست و مقعد الصف الأخير من قاعة الكنيسة، التي كانت قاصرة على أقارب المتوفى. كان عدد الحضور قليلا جدا، وتعاطفت من أجل الأسرة. غيرت مكاني مقتربا أكثر من الصف الأول. كان ابنه جورج يقوم بعملية التأبين. الأمر الذي كنت أخشاه، فقد شغل هذا الهم تفكيري لوال اليومين السابقين. ماذا لو اكتشفوا أنني قد تركت الرجل يواجه مصيره التعيس، فمات؟ 

تقدم ابنه من المنضدة المخصصة لتلاوة الكتاب المقدس، كان يعتصره الألم، ويبدو أثره واضحا على قسمات وجهه، وكان يرتدي بذلة قاتمة اللون، وهكذا بدأ يتحدث عن والده: 
- لعل معظم سكان هذا الحي يعرفون هأري دير، كانوا يعرفونه فمط من هيئته دون معرفة اسمه. وكما تلاحظون أيها السيدات والسادة كيف أن عددا قليلا من الناس يشاركون الأن تأبينه، ترى ماذا يعتقد الناس عنه؟ هلا سمحتم لي بالتحدث عن حياته لبضع دقائق. نشأ هاري إبان حالة الكساد التي شهدتها حقبة ثلاثينيات القرن العشرين. لم يشهد أي واحد منا تلك الأوقات، ونحن لا نعرف عنها الكثير، بل حتى إن معظم الشباب لا يدركون أنه حدث شيء من هذا القبيل قبل الحرب العالمية الثانية. فخلال حالة الكساد الاقتصادي كان من الصعب إيجاد عمل، وأجيرت آلاف العائلات على هجر منازلها والهيام على وجوههم في الطرقات، كان يتعين على الآباء الذهاب إلى الغابات للبحث عن عمل، ليكسبوا عن طريقه ما يسدون به رمقهم، لكن لم تكن هناك أي فرص عمل. كانوا يسيرون أياما وليالي يحملون فؤوسهم، وأعتقد أنكم تعلمون ماذا يعني ذلك، لقد كانوا يقومون بأعمال غريبة. إذ كانوا يعيشون على أكل الكنغر والولب والأفاعي والأسماك والحيوانات الميتة، وكل ما تقع عليه أيديهم. وقد استمر الكساد بدرجات متفاوتة حوالي ستة أعوام عجاف. ومات الكثير منهم جوعا، كانوا يرتدون ملابس ممزقة وأحذية بالية، وكان المشردون يهيمون على وجوههم في كل مكان، تضج بهم الطرقات. وتفككت أسر بسبب غياب الأزواج في رحلة البحث عن العمل، وكان هؤلاء . الأزواج لا يعودون إلى أسرهم فو أغلب الأحيان. وأحيانا لا يعودون لأنهم كانوا يشعرون بالعار من الاعتراف بعدم قدرتهم على التكفل بأسرهم. وفي بعض الأحيان كانوا يموتون. وباختصار كان ذلك حال الناس إبان الكساد الاقتصادي. 

صمت الابن لبرهة متفرسا وجوه الحضور ثم استطرد قائلا: 
- لقد عاش هاري خلال ذلك الكساد الاقتصادي كمراهق، وكم عانى من لسعات الجوع، كان يذهب إلى المدرسة حافي القدمين، عاشوا في إسطبل للخيل لمدة ثلاث سنوات، وعندما بلغ الثالثة عشرة ذهب للعمل من أجل إعالة إخوانه وأخواته. كان أبوه قد ذهب إلى الغابات محاولا العثور على عمل ي مجال جز الخراف، وبعد عامين من البحث المضني العقيم والترحال المجهد، أنهى حياته بإغراق نفسه ف أحد الأنهار. فاضطر هاري للعمل ف أحد المصانع بمعدل ثماني عشرة ساعة في اليوم حتى بلغ سن دخول الجيش. 

فيما كان الابن يسرد قصة والده المؤثرة، كنت أصغي بإمعان مبهورا بقصة هاري دير، وكل الذي كنت أعرفه عنه حتى تلك اللحظات هو أنه مجرد رجل عجوز نتن الرائحة. فعرفت أنه قاتل ببسالة في الحرب، وجرح في بطنه حتى تم تسريحه عام 1945. وبسبب جرحه كان من الصعب عليه إيجاد عمل، لكنه استطاع أن ينجح في مجال ما. وأنشا أسرة، ثم كبر الأولاد وتزوجوا وتركوه. وبقي لمدة طويلة بعد وفاة زوجته التي صرعها السرطان في البيت نفسه الذي اشتراه عام 1946 ، والذي شيده أرض كبيرة تبلغ أربع هكتارات، وتقع ف الضواحي المزدهرة من المدينة، وعندما نقدم هاري لا الممر أصيب بمرض الزهايمر اللمين. وكثيرا ما كان يفقد ذاكرته وكانت تنتابه حالات تشوش بسبب المرض. لكنه كان يتذكر بوضوح نشأته وما كابده من معاناة وفقر وجوع في مدة الكساد، ويتذكر أطفاله المساكين الذين كانوا ينتظرون الرزمة الصغيرة التي كان يحصل عليها من المصنع آخر الشهر مقابل عمله. 

وفجأة أصبح كل شيء واضحا بالنسبة لي، وتفهمت لماذا كان هاري يهيم في الطرقات متنقلا من حاوية نفايات إلى أخرى باحثا عن علب الألمنيوم أو الزجاجات الفارغة. وأدركت أنه بسبب مرضه كان يعيش الماضي. وكان الناس في مدينتا يماملوئه كالمجذوم أو المنبوذ، ويحاولون تفاديه كما لو كان مجرما خطيرا. 

كنت أجلس في الكنيسة أصغي باهتمام إلى ابنه يحكي عن هاري حتى وصلت القصة إلى الحادثة التي تسببت في مقتله. وكنت أشعر بالخجل أكثر وأكثر، وشعرت كأن النار تشتعل في أذني، وأنا أرتجف خوفا لأنني كنت موقنا أنها لحظات حتى يخبر ابنه الجميع بالجرم العظيم الذي ارتكبته. وكيف رفضت عمل أي شيء لمساعدة الرجل العجوز. لكن ما حدث بعد ذلك كان أسوا بكثير مما كنت أخشاه، عندما واصل الابن القصة قائلا: 
- عندما ضربت السيارة هاري أطاحت به أرضا وبدأ يختنق. ولم أكن عما حدث من سائق سيارة الإسعاف. هناك وقتها، لكنني استفسرت في البداية أخبرني ألا أحد هب لتقديم العون لهاري، لأنهم يرون فيه مجرد رجل عجوز نتن الرائحة ليس إلا. لقد صعقت وتألمت أشد الألم عندما علمت أن هناك أناسا مجتمعنا لا يضيرهم ترك رجل عجوز يخنقه لسانه حتى الموت دون بذل أي جهد لمحاولة إنقاذه. ألححت و استفساري مع السائق، وز النهاية أخبرني السائق بالحقيقة، أخبرني أن هناك شخصا واحدا تقدم إلى والدي وأجرى له عملية تنفس اصحلناعي- فم لفم - وأن ذلك الرجل لم يرد أن يفصح عن شخصيته، ولا يريد أن يكافا مقابل هذه البادرة الحليية، وهكنا مللب من سائق سيارة الإسعاف ألا يخبر أحدا. إن ذلك الرجل هو السيد شارلي فاونتين، لقد فعل ما ينبغي أن يفعله أي مواطن محترم. وإن هذا الر جل موجود معنا الآن، لن أقوم بالكشف عنه، لكنه معروف في المنطقة بكلبه من نوع البكسر. وفي اليوم الذي توفي فيه والدي تصادف أن كان يتمشى مع كلبه، وعندما وقعت الواقعة ما كان منه إلا أن هب مسر عابرا الشارع، وحاول على الفور إنقاذ والدي. لكن للأسف لم يوفق، وكما تعلمون توف والدي في مكان الحادث. وفؤ الواقع إنني مهما فعلت فلن أستطيع أن أجازي هذا الرجل الشهم صاحب الكلب البكسر، الذي حاول إنقاذ أبي، فقط أعتبره مثل أي رجل محترم. ولا يمكن لأسرتنا أن تتصور أبدأ أن يترك الناس والدي يموت مختنقا بينما يقفون حوله ينتظرون سيارة الإسعاف، إنه لأمر محزن حقا.

لم أنتخظر لأسمع المزيد، وعلى كل حال اعتقدت أنه لم يتبق الكثير الذي يقال. كان رأسي يدور وأصبت بالغثيان من فرط شعوري بالذنب والخجل من نفسي. لماذا كذب رجل الإسعاف؟... كذب على هذا النحو؟ 

نعم. لقد ذهبت إلى المقبرة لأشهد مراسم دفن الرجل العجوز، كنت أقف غير بعيد من الموقع، وتقدم الابن إلي وشكرئي على صنيعي اعتقاده، مصافحا يدي بحرارة، وشاهدت الناس يحدقون نحوي نهم يدركون حقيقة الأمر. ثم ابتدرني قائلا: 
- إنني ممتن لك لبذلك جهدا مقدرا من أجل إنقاذ والدي. 
وتمتمت قائلا في تلعثم: 
- حسنأ... لا ينبغي.. ترك شخص ما.. ليموت دون محاولة إنقاذه. 
- بالطيع، بالطبع... بالمناسبة، سوف يتصل بك المحامي الخاص بي لاحقا. 
- المحامي لماذا؟ 
خشيت أن المحامي يعرف الحقيقة، وها هو الابن قرر الآن أن يرفع ضدي قضية. ولكنه انتشلني من مخاو قائلا: 
- حسنا، لم يترك والدي أية وصية، لكننا ذمتقد أنك يجب أن تحصل على شيء ما تقديرا لصنيعك. 
- أوه ... لا لا ... إن ما فعلته فقط كان مجرد ... كنت أظن أن والدك معدم، أليس كذلك؟ 
- حسنا... لديه قليل من المال الذي استطاع ادخاره. لكنه يمتلك منزلا وقطعة أرض. وأعتقد أن المنزل لا يساوي شيئا. فهو منزل متهالك ومتهدم، إلا أن قطعة الأرض تساوي.. 
- أرجوك، إنني أفضل ألا تشملني التركة ... أرجوك. 
- أجل. إنني أقدر ما تقوله، وأعجب بنزاهتك، لكننا نحسب أنه لو كان والدي لا يزال على قيد الحياة لسره أن يمنحك هدية ما. 
- لا، أرجوكم لا تكلفوا أنفسكم. إن ذلك ليس ضروريا. أنا آسف لكنني يجب أن أستأذن الآن للانصراف. 
- أشكر لك حسن صنيعك. 

لم أنتظر احظة، كنت أشعر أنني يجب أن أنصرف بسرعة. قصدت في اليوم التالي مقر الإسعاف، وطلبت مقابلة السيد شارلي فاونتين. كثا نقف في الخارج بالقرب من سيارة الإسعاف النظيفة لدرجة اللمعان، لم يتعرف علي الرجل في بادئ الأمر، فابتدرته قائلا: 
- أنا الذي كنت ف مكان الحادث الأسبوع الماضي... الحادث الذي توف فيه الرجل العجوز هاري. أتذكر ...؟ 
- أوه، نعم، تذكرت، أنت الذي كنت تصطحب كابا، أليس كذلك؟ أهلا بك. تفضل، ما الذي يمكنني أن أقدمه لك؟ 

- أريد فقط أن أعرف للاذا أخيرت ابن هاري أنني حاولت إنقاذ والده. وأنت تدرك أن هذا ليس صحيحا، وأنني لم أفعل أي شيء لإنقاده! حدق شارلي في للحظة، ثم جال ببصره في المكان كأنه يريد أن يتأكد من عدم وجود شخص يستمع إلينا ثم أردف قائلا: 

- حسنا، أوتعلم أن الابن... ما هو اسمه؟ 

- جورج.

- نعم، نعم اسمه جورج. جاء لمقابلتي وأراد أن يعرف ما إذا كان يوجد أي شخص حاول تقديم المساعدة لوالده. 

- وهكذا أخبرته أنني من حاول إنقاذ.. 

- لا. أخبرته ألا أحد حاولى إنقاذه. أخبرته أن والده كان ممددا على الشارع يلا حراك إلى أن توو مختنقا بلسانه. إن أي شخص" ملم بمبادئ التنفس الاصملناعي، كان بإمكانه إمالة رأس الرجل إلى الوراء، ربما كان سينقذه وكان يمكن أن يكون على قيد الحياة الآن. 

كان شارلي يحملق في وهو يتكلم، لكنني كنت أعلم أنه يقول الحقيقة، على الرغم من أنها كانت حقيقة مرة. نظرت إلى العلامة المميزة المرسومة على قميصه، وتذكرت على الفور دورة إنقاذ المصابين ف الحوادث وعملية إجراء التنفس الاصطناعي للمصاب، التي سبق أن اشتركت فيها، نعم، وذلك كان أول شيء درسوه لنا. ثم قلت له: 
- كان ابنه يقول للجميع أثناء مراسم دفن الجنازة إنني أجريت لوالده عملية تنفس اصطناعي فم لفم- في محاولة مني لإنقاذ حياته. لا أعرف من أين أتى بهذه الفكرة عني؟ 

تحرك شارلي معدلا حمله من قدم إلى أخرى، وبدا لي كما لو أنه يريد أن ينصرف إلى الداخل. مد بصره إلى الشارع الرئيس ثم قال: 
- كان الابن منزعجا جدأ عندما أخبرته ألا أحد قدم مساعدة لوالده. كان غاضبا وأجهش بالبكاء، وكان ف حالة يرثى لها. وأدركت إلى أي مدى كان الأمر مؤلما بالنسية له، فقررت أن أخفف من ألمه. وأخبرته أن هناك رجلا حاول تقديم المساعدة لوالده، لكن هذا الرجل لا يريد أن يعرف أي شخص ما قام به، لأنه لم يكن يريد أن يمجده الناس كبطل، فهو يشعر أنه أدى واجبه، وأن ما قام به هو واجب الجار تجاه جاره. وما إن قلت ذلك للابن، حتى أصر على معرفة ذلك الشخص. وكان لزاما علي أن أذكر له اسم أي شخص، الأمر الذي كان متعذرا علي. ثم فجأة تذكرتك، وقلت له: «الرجل صاحب الكلب». وأخبرته أنك إنسان متواضع ولا تريد أن يعرف أي أحد ما قمت به. أنا أسف إذا كان ذلك قد سبب لك إحراجا، لكن الواقع أن هذا جعل الأسرة كلها تشعر بحال أفضل عندما علموا أن والدهم لم يترك ليواجه مصيره مختنقا بلسانه حتى الموت وسط جمهرة من الناس يحيطون به يحدقون فيه ببلاهة ولم يقدموا له شيئا. 

كنت أنظر إلى أسفل، مطأطئا رأسي خجلا، أشعر بخجل عميق لدرجة أنني كرهت نفسي، فقلت له:
- نعم، نعم، فهمت، لا بأس في ذلك. أردت... فقط أن أعرف ما حدث. ما فعلته كان صوابا. 

صافحت يده بحرارة، ثم استدرت وانصرفت بقلب مثقل. لم أسمع عن عائلة هاري مرة أخرى إلا بعد مرور ثلاثة أشهر تقريبا عندما تلقيت خطابا من محاميه، يخبرئي فيه أنه قد تم تقسيم التركة وأن نصيبي 10.000 دولار. وكان هناك صك مالي مرفق مع الخطاب، لم أصدق عيني، من المؤكد أنني قرأت الخطاب بشكل خاطئ. وعندما نظرت بتركيز أكثر الصك لم يكن المبلغ 10.000 دولار بل كأن 100.000 دولار. 

ذهلت وارتبكت، وملئت أسى وحزنا. واتصلت بالمحامي فؤ الحال، وبمد أن تجادلت معه لمدة ١5 دقيقة استسلمت. وأدركت أنه لا يستطيع فعل أي شيء لتغيير قرار العائلة. كان ذلك أمرأ نهائيا، حسب قوله. كان هاري ينتقل من مكب نفايات إلى آخر، يجمع علب الألمنيوم والز جاجات الفارغة، الوقت الذي كانت تساوي الأرض التي كان يسكن فيها مليوني دولار. لقد أعطوني مائة ألف دولار. وشعرت بالاشمئزاز. وتمنيت لو كانت مائة دولار فقط، لأنها كانت ستجعل ما سوف أقوم به أكثر سهولة. 

وفي صبيحة اليوم التالي أودعت الصك في حسابي، وحررت. الإنقاذ، وكنت أدرك في دواخلي أنني إن بمبلغ100.000 دولار لفائدة جيش احتفظت بهذا المبلغ فسيحرقني من الدأخل، وسيدمرني من فرط شعوري أ اذا احتفظت بهذا المال فهذا يعتير سرقة. نعم، كان بالذنب، وشعرت سي. ذلك هو اليوم الذي تحولت فيه إلى رجل ثري لمدة قصيرة من الوقت، نعم، كان ثراء ماديا، لكنني بعد أن وهبت ذلك المبلغ تحول الثراء إلى نفسي. وأصبحت رجلا صحيحا وقويا عندما تخلصت من ذلك المال، وشعرت بأنني ثري حقا، لأن الرجل الثري نظري هو ذلك الرجل الذي يستطيع أن يهب مبلغ 100.000 دولار. 

المصدر :  كتاب "العجوز والطريق وقصص أخرى" للكاتب ماركوس كلارك.


الإبتساماتإخفاء