إعلان

قصة مغامرة في الجو

مغامرة في الجو

قصة مغامرة في الجو

كان يوما رائعا للطيران، بسمائه الصافية، ورياحه الخفيفة. وفي الساعة الحادية عشرة قبل الظهيرة، اندفع الطيار (جيمس توبن - Tobin James) بطائرته العسكرية ذات المحركين المروحيين من طراز (يو-21 - 21-U) فوق الممر الجوي، وسرعان ما ارتفع في الجو. كان (توبن) ومساعده (روبرت بيرس - Piers Robert) وهما طياران مدنيان يعملان لحساب طيران الجيش الأمريكي، في الثلاثينيات من العمر - يقومان بنقل صناديق أسلحة من مطار (موريستاون) الحربي في ولاية (نيوجيرسي)، إلى قاعدة (إبردين) الجوية في ولاية (ميريلاند). كانت الرحلة روتينية، تستغرق حوالى خمسين دقيقة، ولكنه كان اليوم الأول لـ (توبن) في عمله الجديد، كما أنه كان أول طيران بالنسبة لـ(بيرس) فقد كانت هذه هي الأولى له برفقة مساعده (بيرس و المرة الأولى لقيادة طائرة نقل عسكرية من طراز «21 - U».
عندما كان (توبن) يوجه الطائرة للارتفاعات العالية، لاحظ الضوء الأحمر يومض أمامه بصورة متقطعة على لوحة أجهزة القيادة، مما يشير إلى أن هناك خللا ما في باب الشحن. نظر خلفه من فوق كتفه الأيسر، وكان الباب مغلقا. 

وباعتباره ضابطا سابقا في الجيش الأمريكي، قضى اثنتي عشرة سنة في قيادة الطائرات الحربية، بما فيها طائرات الهليكوبتر في حرب فيتنام، فقد تعود على مثل هذه الأعطال القليلة الأهمية. وعندما أصبحت الطائرة على ارتفاع تسعة آلاف قدم حوالي 2743 مترا واستقامت في مسارها المحدد، طلب من بيرس أن يتولى قيادة الطائرة، قائلا: "من الأفضل أن أذهب وألقي نظرة، وأتأكد من سلامة الصناديق". كان (توبن) يعرف أن المقبض المثبت أعلى الباب لابد أن يتجه نحو زاوية معينة، إذا ما كان الباب مغلقا، ولكن المقبض لم يكن في الاتجاه الصحيح، ولذلك أخذ (توبن) في فحص المحاور العلوية، والمفصلات السفلية للباب دون أن يلمسه. وفي لحظة خاطفة انفتح الباب للخارج، ووجد (توبن) نفسه منقلبا في الفراغ العاصف. اعتقد أنه يطير خارج الطائرة، حينما كان يمتطي لوهلة تيار الهواء الناتج عن سرعة اندفاع الطائرة. ولكن في طرفة عين أمسكت يده اليسرى بالحبل النايلون الممتد على جانب عتبات المدخل، والمثبت في باب الشحن. قذفت رياح ديسمبر الباردة بجسده على دعامة معدنية بجانب السلم، حيث تلقت ضلوعه صدمة عنيفة، ولكنه تمسك بالحبل. في داخل الطائرة كان (بيرس) مستمتعا بالشعور بالتحكم في الطائرة، حينما سمع صوتا أشبه بفتح نافذة سيارة في طريق سريع، وعندما نظر خلفه لم يجد سوى الفراغ ولم يكن هناك أثر لزميله. 

كان (بيرس) قد واجه من قبل بعض أخطار الطيران، ولكن لم يكن من بينها هذا الموقف. وغمغم في نفسه: "يا إلهي لقد اختفى (توبن)!".
ألقى (بيرس) نظرة اخرى على لوحة القيادة، ثم نظر خلفه ثانية أهذا جيم؟ يبدو أنه يصارع الحياة!" 
لقد كان كل ما أمكنه أن يراه هو قدم زميله وهي تعلو وتهبط خارج سلم الطائرة. وفي الحال خفض (بيرس) من سرعة الطائرة، من 350 كيلومترا في الساعة، إلى 150 كيلومترا في الساعة. 
كان (توبن) متمسكا بالحبل بكل قواه، متشبثا بالحياة، حين سيطر عليه إحساس غريب بانفصال ذهنه عن جسده. وسرعان ما شعر بانخفاض سرعة الطائرة، تلاه انخفاض ضغط الرياح، فأدرك أن (بيرس) تفهم الموقف، وعرف كيف يتصرف بسرعة.
استجمع (توبن) كل قواه لتثبيت قدمه اليسرى ببطء شديد وحذر بالغ، بقائمة كتف الباب، بينما ظلت يده اليسرى ممسكة بالحبل، ورأسه إلى الأسفل يهتز بفعل الرياح. 
لقد أصبح لديه الآن دعامتان آمنتان للمحافظة على الحياة. ولكنه تساءل بينه وبين نفسه "إلى متى يطول الأمر؟ إن هذا يتوقف تماما على تصرف (بوب)".
كان (توبن) قد تعرف على (بيرس) في اليوم السابق لطيرانهما. وأدرك أن لديه معرفة واسعة بالمطارات في شمال ولاية (نيوجيرسي)، فهل يمكن لهذه المعرفة أن تعينه في محنته؟ بدأ الألم ينتشر في عضلاته المجهدة، ولكنه قال لنفسه: "تمسك بموقفك يا (جيم)، فربما لم تحن ساعتك بعد للرحيل!". قاوم (بيرس) رغبة ملحة للذهاب للخلف وسحب زميله داخل الطائرة. 

قد كان (توبن) قوي البنية، يبلغ طوله 186 سنتيمترا ووزنه 78 كيلوجراما، وليس هناك من وسيلة لجذبه حيث يرقد فوق درجات الطائرة، في مثل هذه الرياح الوحشية. فضلا عن أن (بيرس) يعرف أن الطائرة «21-U» غير مزودة بجهاز للطيران الألى «pilot auto» يحفظ توازنها ومسارها المستقيم لحين إنقاذ زميله. ولا يمكن للطائرة ان تستقر فى مسارها اكثر من دقيقة ن تحكم من الطيار. 
وتأكد (بيرس) أن الشيء الوحيد المنطقي هو الهبوط بالطائرة بأسرع وقت ممكن. ثم نظر من النافذة، فامكنه رؤية وجه (توبن) وجزءا من جسده مقلوبا على درجات السلم، ويعاني الإجهاد والتوتر في مواجهة الرياح الباردة. 

اتصل (بيرس بالراديو بمركز مراقبة الطرق الجوية في (نيويورك) "هذه هي الطائرة العسكرية رقم «882»، لدي حالة طارئة، وعلي الهبوط في الحال.". كان ذلك في الساعة الحادية عشرة والربع صباحا، حينما كان (ديفيد شالر - Schaller David) جالسا امام شاشة الرادار في مركز المراقبة الجوية الضخم. وكانت حركة الطيران طفيفة بوجه خاص، حينما تلقى مكالمة الطائرة «88» وأجابه (شالر): «نعم 882، إلى أي مستوى تريد الهبوط ؟». 
أوضح (بيرس) متاعبه قائلا: "هنا 882، علي الهبوط بالطائرة تماما إلى الأرض. لدي باب الشحن مفتوح، وهناك شخص متعلق به في الخارج ". 
أما توبن فكان يشعر بانتعاش غريب، ربما بسبب الارتفاع، أو ربما بسبب كونه ما زال حيا. 

كانت درجة الحرارة في ذلك الارتفاع، تصل إلى تسع درجات مئوية تحت الصفر. ولكنه لم يشعر بالبرد باستثناء يديه، ففي ذلك الصباح -وكما يفعل في كل أيام الشتاء- ارتدى ملابس داخلية صوفية طويلة تحت زي الطيران وقال لنفسه: "إن هذا لمن حسن الحظ، إذا كان هناك شىء حس بالنسبة لي هذا اليوم. 
ولكن إلى أي مدى سوف يصمد هذا الحظ الحسن ؟ 
كانت اتصالات الراديو المتبادلة ما زالت مستمرة بين (شالر) في مركز المراقبة و(بيرس) في الطائرة المنكوبة. اقترح الطيار الهبوط فى مطار (سومرسيت - Somerset) شرق ولاية (نيوجيرسي). وأخذ (شالر) هذا الاقتراح في الاعتبار، ولكن كان على الطائرة 882 أن تدور لتصل إلى هذا المطار. فهل يمكن للرجل المتدلي خارج الطائرة أن يصمد خلال هذا الدوران الحاد؟ 

اقترح (بيرس) مطارا قريبا آخر يقع ناحية الغرب، وقال (شالر): "سوف أتجه إلى مطار (سولبيرج هانتردون -Solberg Hunterdon). هل يمكنك ارسال سيارة إسعاف هناك؟". ويقع مطار (سولبيرج) هذا بالقرب من (سومرفيل - Somerville) بولاية (نيوجيرسي)، وهو عبارة عن ممر من الخرسانة في منطقة جرداء، ويخلو حتى من برج المراقبة. شعر (توبن) بالطائرة وهي تميل ببطء، وبدات في الهبوط و الانحدار التدريجي، وأصبح تمسكه بموقعه أكثر صعوبة، وله يستطع أن يثبت ساقه اليمني بحرف الباب. 
وعلى ذلك تلقت رجله اليمنى والجزء الأسفل من جسمه كل القوة الدافعة للرياح، والأسوأ من ذلك أن ذراعه اليمنى المتارجحة ظلت تصفق ظهره وكانها شيء فاقد الحياة. 
وسرعان ما أحس بشيء يملأ فمه ويكاد يسد حلقه وشعر أن جزءا من داخله يكاد يخرج من فمه، وحاول قدر استطاعته ان يطرد ما ابتلعه. وأجبر ذهنه على التركيز في التفكير حول عائلته، وهي أهم شيء في حياته.

أخذ يفكر في ابنه (جيمى- Jimmy) ( ٧ سنوات )، وابنته (كريس - Cluis) (٤ سنوات)، و(كولي - Collce) زوجته، وهل في إمكانهم مواجهة متاعب الحياة وحدهم؟! 
وتذكر (توبن) أنه في هذا الصباح غادر منزله متعجلا، بعد ان ألقى تحية سريعة، وقال لنفسه: إننا حتى لم نستطع تبادل الوداع اللائق!". 
وهناك فى مركز مراقبة (نيويورك)، كان (شالر) قد افسح الطريق لآبيرس) للقيام بهبوط اضطراري، واتصل به: 
- "882، المطار يقع على بعد ستة كيلومترات ونصف الكيلومتر إلى الجنوب منك". 
- "حسن، وماذا عن الرياح؟" 
- الرياح تهب بزاوية 150 درجة، وبسرعة ثمانية عقد (knot) في الساعة (حوالى 14.5 كيلومتر في الساعة). 
أكد (بيرس) أن ممر المطار أصبح في مجال رؤيته، حينئذ تمنى له (شالر) التوفيق وودعه، بنفس الطريقة المختصرة المتعارف عليها في حالات الطوارئ. 
عندما دق جرس التليفون في مطار (سولبيرج) في الساعة الحادية عشرة والدقيقة الخامسة والعشرين قبل الظهيرة، تلقت المكالمة (سوزان ناجل - Nagel Suzanne) إحدى ثلاثة يمتلكون المطار ويديرونه- وكانت جالسة فى غرفة صغيرة تستخدم كمركز للعمليات وغرفة انتظار في نفس الوقت. 
كان المتحدث على الطرف الآخر مسئول من مركز المراقبة الجوية في (نيويورك). وأبلغها أن الطائرة العسكرية رقم 882 سوف تهبط اضطراريا فى مطارها، وأن هناك شخصا متدليا خارج الطائرة.

لم تكن السيدة (ناجل) متأكدة تماما من إفساح الطريق للطائرة 882، بسبب وسائل الاتصالات المحدودة في مطار (سولبيرج). فلقد اعتاد الطيارون نداءها والاتصال بها على موجة راديو خاصة، وذبذبة معينة، عندما ينوون الهبوط في مطارها، وغالبا ما كانوا يفعلون ذلك. فالهبوط في مطار (سولبيرج) كان يجري بدون مواعيد مسبقة، وطبقا لقواعد الطيران المرئية ليس إلا. 
وفجاة ظهرت طائرة غير معروفة وهي تومض باضوائها. 
في كابينة قيادة الطائرة 882 أظهرت العدادات لـ (بوب بيرس) أن الطائرة تنخفض بمعدل ألف قدم (305 أمتار) كل دقيقة. وكان عليه -كل بضع ثوان- أن يلقي نظرة خاطفة من فوق كتفه للتأكد من أن (توبن) مازال هناك في مكانه. ولكن لم يكن في استطاعته أن يعرف إلى أي مدى سلامة تشبث توبن في موقعه، أو مدى الضرر الذي أصابه. 
لذلك كان على (بيرس) أن يجعل هذا الهبوط سلسا وبطيئا قدر الإمكان. 
كان للطائرة عجلتان رئيسيتان للهبوط أسفل الجناحين، تقع إحداهما أمام المكان المعلق فيه (توبن) على سلم باب الطائرة، بالإضافة إلى عجلة ثالثة أخرى في مقدمة الطائرة. 
ظهر ممر الهبوط بوضوح، فقال (بيرس) لنفسه: "الآن عليك توجيه الطائرة إلى الاتجاه الصحيح، وفي إمكانك أن تفعل ذلك".
في تلك اللحظة ظهرت طائرة صغيرة أمام مقدمة الطائرة 882، متجهة لنفس ممر الهبوط، فغمغم (بيرس): "حسنا، دعه يهبط أولا، المطلوب هو الثبات والبطء والهدوء". 

لم يكن (بيرس) ليسمح لنفسه أن يدخل في سباق مع أي طائرة على هذا الممر، فسباقه الوحيد كان مع الموت، والمزيد من الانتباه والحذر يكفلان له كسب المعركة. 
وقام (بيرس) بخفض قلابات الأجنحة «flaps» استعدادا للهبوط، مع إنزال العجلات، وقفل صمام الوقود. عندما انخفضت قلابات الهبوط على طول حرفى الجناحين، أثار ذلك دوامة عاصفة من الرباح اشبه بالانفجار، حركت قدم (توبن) المشتبكة بالباب. بينما اصابته دوامة عادم المحرك بالغثيان. ونظر بطرف عينه، فرأى الممر يقترب منه بسرعة، إذ كان ينظر مباشرة إلى العجلات أسفل الطائرة. وقال لنفسه في صدمة مرعبة: يا إلهى! إن رأسي سوف يصطدم أولا" . حاول (توبن) بكل ما تبقى لديه من قوة رفع جسده إلى أعلى، ولكنه لم يستطع. وكمجهود أخير ويائس ادار رأسه إلى أقصى زاوية علوية ممكنة. 
لحظات ثم لمست العجلات ارض الممر، وهدرت الطائرة على طول الممر المسلح، وهي تثب بشدة. 
ولكن رأس (توبن) كان بعيدا عن الممر، إنه مازال حيا على أية حال. 
ثم كانت هناك مشكلة أخرى، حيث كانت الإطارات المندفعة ثم تقذف بالكثير من الحصى الصغير، الذي ينطلق أشبه بالرصاص إلى وجهه مباشرة. أصابت حصاة إحدى عينيه فآلمته، ولكنه تمسك بموقفه. 
في النهاية الطائرة عن الممر إلى طريت فرعي، ثم توهفت الطائرة. 

من نافذة مكتبها، شاهدت (سوزان ناجل) الشخص المعلق بسلم الطائرة فاسرعت لمساعدته. في نفس الوقت الذي كان فيه (بوب بيرس) يحاول جذبه لاسفل، وتمكنا معا من إنزاله إلى الأرض. 
كان (توبن) يرتجف بشدة ويثن من الألم، وبعد لحظات أخذ في تحريك أصابعه ويديه اليابستين، ثم ابتسم بمرح وحيوية. 
اكتشف الأطباء في مستشفى اسومرفيل) وجود كسر في الذراع، وكدمات وجروح وفور التثام عظام ذراعه عاد (توبن) مرة أخرى إلى الطيران، ولكن بنظرة جديدة للأمور، وحب اكثر للحياة، ويقول (توبن): "شاءت حكمة الله أن أبقى. وأعتقد أني أدرك حكمة الحادث بالنسبة لي الآن. فلقد تعلمت تقدير الحياة في أجزاءها الصغيرة، و التي كنت أتقبلها كأشياء مفروغ منها، ولكني لم أعد أفعل ذلك. إن الحياة حقا رائعة، وهو إحساس لم أختبره من قبل". 



الإبتساماتإخفاء