قصص ساخرة
إليكم ثلاثة قصص ساخرة :
1- بعد خراب البصرة :
أفاق أحد النقاد العرب من نومه، وتمطى وتثاءب وهو يشعر براحة من نام مائة سنة، وارتدى ثيابه على عجل (بسرعة)، وخرج من بيته، وسار في الشوارع قاصدا مقهاه متلهفا على تدخين النرجيلة واحتساء عدة فناجين من القهوة، فتفاجأ في أثناء مشيه باكتشافه أنه لا يرى الأحياء فقط؛ بل يرى أيضا الأموات غير المرئيين لغيره من الناس، وتأكد من أن ثمة أمرا غامضا قد حدث له وهو نائم، وجعله مالكا لتلك المقدرة الغريبة التي تمكنه من رؤية الكثير من الأدباء العرب الأموات المتسكعين في الشوارع، وحدق إلى ما حوله بفضول.
فرأى :
- الكاتب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي يهرع في الشوارع باحثا بإلحاح عن الشاعر السوري ادونيس وهو يصيح بحنق: إذا أراد أن يتابع السطو على إنجازاتي البلاغية، فليكن جريئا، ويكف عن الاختباء وراء أقنعة الحداثة.
- الشاعر والمسرحي المصري نجيب سرور يحوص متنقلا بحيرة من رصيف إلى رصيف محاولا الاهتداء إلى مبني سفارة أجنبية كي يقدم إليها طلبا للحصول على الجنسية والتخلي عن الجنسية العربية.
- الشاعر اللبناني خليل حاوي جالسا على أحد الأرصفة يحملق بسخرية إلى مظاهرة غاضبة تتعالى فيها الهتافات المنددة بأمريكا وإسرائيل، ويتمتم بصوت متهدج آسف: لو كان الكلام ينفع لما انتحرت.
- القاص المصري يوسف إدريس يدخل المكتبات ليغادرها محملا بكتب لكتاب آخرين، ويمزقها بحركات نزقة وهو يقول: عندما كنت حيا كانوا كلهم أقزام، وعندما رحلت عن الحياة صاروا كلهم عمالقة.
- الشاعر العراقي بدر شاكر السياب ملتصق الظهر بحائط، يقرأ ديوانا من الشعر الحديث، وقد رمى بالديوان فجأة على الأرض، وهو يقول بصوت يقطر ندما: لو كنت أعرف أن تطويري للشعر العربي سيؤدي إلى مثل هذا الشعر الهراء لقضيت حياتي كلها انظم الشعر مقلدا أحمد شوقى وابن سكرة.
ولما مل الناقد من التفرج على الأدباء الأموات، سارع إلى مقهاه، ودخله، وطلب نرجيلة وفنجان قهوة، فأهمل النادل طلبه، وعامله كأنه غير موجود وغير مرئي، فذهل الناقد، وأيقن انه قد مات أثناء نومه، وأخرج من جيبه قلمه وأوراقه البيضاء، وبدأ يكتب أراءه الحقيقية فى أدباء سبق له أن امتدحهم وقارنهم بكبار الأدباء في العالم، وكانت أراؤه الجديدة تنصحهم بالعمل في أية مهنة ما عدا مهنة الأدب، وقد توقف عن متابعة الكتابة قانطا عندما تنبه إلى أن ما سيكتبه لن يصل إلى القراء!.
2- القهوة أفيون الشعوب :
غفر الله لكل جريدة عربية نشرت بسذاجة ذلك الخبر الطريف الغريب عن اكتشاف علماء روس أن القهوة تصيب بالجبن والخوف وتفقد الشجاعة والجرأة، ولم تعلم تلك الجرائد أنها جعلت الفرح يختال مزغردا راقصا في قصور المسؤولين العرب الذين يخشون شعوبهم ويسعون لجعلها مزيجا من الخراف والأرانب والببغاوات، وكلما خيل إليهم أن مساعيهم تكللت بالنجاح؛ بوغتوا بما لم يكن بالحسبان، واتضح لهم أنهم كانوا من الواهمين، وهاهم اليوم تسنح لهم فرصة العمر، فما كانوا يبحثون عنه قد جاءهم مجانا وبغير تعب، ولا بد من أنهم سيحاولون الاستفادة من هذا الاكتشاف لتعميم الخوف بأمتع الوسائل وأسهلها وأرخصها، وستنطلق أولا أجهزتهم العلمية والأمنية لمحاربة الشاي باتهامه بانه مسبب السرطان والإيدز حتى يتاح للقهوة وحدها ان تصول وتجول في كل الساحات متوجة بأكاليل الغار، وستشهد الأسواق طوفانا من القهوة التي ستباع بأسعار رمزية بسبب ما نالته من دعم حكومي سخي، وسيراقب المختصون كل بيت من البيوت، وكل بيت لا يحتسي سكانه القهوة بشراهة، سيشتبه به، ويعامل على أنه مركز خفي لتدريب المشاغبين والمتمردين والخارجين على القانون.
وستتغير المناهج المدرسية، وسيضاف إلى كل كتاب مدرسي فصل جديد عن الفوائد الجمة للقهوة، وسيقال في الكتب المدرسية الأدبية أن المتنبي لم يوفق في نظم قصائده الخالدة إلا لكونه من مدمني القهوة، واغتيل بينما كان يهرب نوعا فاخرا من البن الكولومبي، وسيقال في الكتب المدرسية العلمية إن القهوة هي التي أتاحت للعباقرة الاهتداء إلى مكتشفاتهم التي أغنت الحضارة الإنسانية، وفي أقبية التحقيق، لن يبدأ التحقيق وملحقاته مع أي متهم إلا بعد إرغامه طوال أيام على احتساء القهوة، وستتغير شروط الانتساب إلى اتحادات الكتاب الرسمية، ولن يقبل أي عضو جديد إلا إذا كان مزودا بوثائق تثبت عدد فناجين القهوة التي يشربها في كل ساعة، وسيرغم نزلاء السجون من عتاة المجرمين على شرب القهوة حتى تتغير طبائعهم إلى حد أنهم يستجدون أن يعملوا في المستشفيات وملاجيء العجزة ممرضات وقابلات. أما المسؤولون العرب الآخرون التواقون إلى أن تتحرر شعوبهم من كل ما يحول دون تطورها، فسيكافحون القهوة بوصفها من اخطر المخدرات، ولن يفلت مهربوها وشاربوها من حبال المشانق.
3- تلخيص ما لا يلخص :
طرد السجين العجوز من سجنه بعد أن عاش فيه سنوات لا يذكر عددها بالضبط، فبادر إلى مغادرته من دون أن يتوقع أن ينتظره خارجه أحد، فزوجته طلقته وتزوجت غيره، وأولاده يجهلون أباهم، وأمه ماتت، وإخوته تبرؤوا منه، ومشى في الشوارع فرحا وحزينا في آن واحد، وتفاجأ بأن كل شيء قد تبدل، وبات مختلفا عما كان يعرفه. رأى السجين أشجارا تركض مرعوبة أسرع من ركض النعامة، فلم يستغرب، وحكم عليها بأنها إما واهنة العلاقة بترابها وجذورها، وإما أن الفؤوس تطاردها، وإما أنها مطلوبة حية او ميتة من قبل جهات لا ترحم. ورأى السجين كلابا تأكل لحم نمور حية، والنمور صابرة لا تقاوم، مذعنة لما يحل بها، فلم يتعجب، فالفأر والنمر لا يختلفان في السلوك، وليس لهما إلا الخضوع إذا كانا سجينين مقيدين، والنمر نمر فى غابته فقط، وحين يرغم على تركها، يرغم أيضا على التبدل، ومن الطبيعي آنذاك ان يسود الاعتقاد أن الكلب أفضل من النمر. ورأى السجين أنهارا تسير إلى الوراء محاولة الرجوع إلى ينابيعها، فتأكد من أنها تحاول تقليد الناس الذين يحاولون بإصرار العودة إلى بطون أمهاتهم فرارا من عالم فظ، فتخفق محاولاتهم، ولكنهم لا يقنطون.
ورأى السجين رجالا ونساء وأطفالا يضحكون ضحكة حقيقية نابعة من قلوبهم، فلم يصدق ما رأى، واقتنع أنه نائم، وما رآه ليس إلا هذيان نائمين يحلمون. ورأى السجين شعوبا تتثاءب غير مبالية ببراكين تثور حولها وتحدق بها، ولم ينجح في تحديد نوع تثاؤبها، فالمستيقظ من النوم يتثاءب، والمتاهب للنوم يتثاءب، والكسلان اللامبالي البليد الخامل يتثاءب. ورأى السجين سلاحف تطير كأنها نسور أو صقور، فلم يدهش أية دهشة، فالزمان الحالي زمان الطيران والطيارين، وفيه طارت طائرات، وطارت مدن وقرى، وطارت أوطان وأمم. ورأى السجين رجالا ذوي شوارب كثة يرتعدون رعبا من قطط هزيلة معتقدين أنها تتعاون سر، مع جهات أمنية، وتخبرها بكل ما تراه وتسمعه.
ورأى السجين سيارات تعبر الشوارع مسرعة كأنها في سباق، فاعترض فجأة طريق إحداها حتى يختتم حياته بتجريب ما لم يجربه من قبل.
المصدر : مقالات ساخرة. للكاتب: زكرياء تامر.
الإبتساماتإخفاء