إعلان

الفتح الإسلامي للأندلس

الفتح الإسلامي للأندلس

الفتح الإسلامي للأندلس

الفَتْحُ الإسْلَامِيُّ لِلأَندَلُسِ أو الغَزْوُ الإسْلَامِيُّ لِلأَندَلُسِ (بِاللاتينيَّة: Capta Islamica della Hispania) وفي بعض المصادر ذات الصبغة القوميَّة خُصُوصًا يُعرفُ هذا الحدث باسم الفَتْحُ العَرَبِيُّ لِلأندَلُسِ (على الرُغم من أنَّ جيش المُسلمين تضمَّن عربًا وبربر بشكلٍ أساسيٍّ وغيرهم من العرقيَّات الأقل عددًا)، كما يُعرف في بعض المصادر العربيَّة باسم الفتح الإسلامي لِإسبانيا، وفي بعض المصادر الأجنبيَّة بِالفتح الإسلامي لِهسبانيا، هو حَملةٌ عسكريَّة بدأت سنة 92هـ المُوافقة لِسنة 711م قادها المُسلِمُونْ تحت راية الدولة الأُمويَّة ضدَّ مملكة القوط الغربيين المَسيحيَّة في هسپانيا، التي حَكمت شبه جزيرة أيبيريا والتي عَرفها المُسلِمُونْ باسم «الأندلُس»، بجيشٍ مُعظمه مِن البربر[ْ 1] بقيادة طارق بن زياد نَزل عام 711م في المنطقة التي تُعرف الآن بِجبل طارق، ثُمَّ توجَّه شمالًا حيثُ هزم ملك القوط لُذريق (رودريك) هزيمةٌ ساحقة في معركة وادي لكة. واستمرت حتى سنة 107هـ المُوافقة لِسنة 726م واستولتْ على مناطق واسعة من إسپانيا والپُرتُغال وجنوب فرنسا المُعاصرة.

كان من أسباب فتح الأندلُس إقبال البربر على اعتناق الإسلام بعد تمام فتح المغرب وتوقهم لِلغزو والجهاد في سبيل الله، وفي نفس الوقت شجَّع والي طنجة الرومي يُليان المُسلمين على مُهاجمة الأندلُس بِسبب خِلافٍ كبيرٍ وقع بينه وبين الملك لُذريق بِسبب اعتداء الأخير على ابنته واغتصابها عندما كانت تُقيم في بلاطه، وفق ما تتفق عليه المصادر العربيَّة والإسلاميَّة، وكذلك لأنَّ المُسلمين رأوا توجيه جُهود الفتح والغزو نحو بلادٍ حضريَّةٍ غنيَّة تُفيد الدولة الأُمويَّة وعُموم المُسلمين، بدل تحويله نحو الواحات والبلاد الصحراويَّة، ولِرغبتهم في الاستمرار بِنشر الإسلام في البُلدان المُجاورة. تمَّ فتحُ الأندلُس خِلال فترةٍ قياسيَّة نسبيًّا، واعترف المُسلمون بعد خُضوع شبه الجزيرة الأيبيريَّة لهم بِحُقوق النصارى واليهود في إقامة شعائرهم الدينيَّة نظير جزيةٍ سنويَّة، كما هو الحال مع سائر أهالي البلاد المفتوحة من المسيحيين واليهود، وأقبل مُعظم القوط على اعتناق الإسلام وامتزجوا مع الفاتحين الجُدد، وانسحب قسمٌ آخر منهم نحو الشمال الأيبيري الذي لم يخضع طويلًا لِلمُسلمين. عاد قائدا الفتح موسى بن نُصير وطارق بن زياد إلى عاصمة الخِلافة دمشق بِأمرٍ من الخليفة الوليد بن عبد الملك سنة 96هـ المُوافقة لِسنة 714م حيثُ لم يُمارسا أي عملٍ سياسيٍّ أو عسكريٍّ بعد ذلك لِأسبابٍ اختلف فيها المُؤرخون، ولفَّ الغُموض نهاية طارق بن زياد خُصوصًا حيثُ لم يُعرف ما حلَّ به بُعيد وُصوله إلى دمشق.

كَان هَذا الفَتْحُ بِداَيةٍ لِلتواجد الإسْلَامِيُّ في الأندلُس الذي امتد لِنحو 800 عام تقريبًا، قَضاها المُسلِمُونْ في صِراعٌ مَع الإمارات والممالِك المسيحيَّة التي تكوَّنت في الشمال في المناطق التي لم يغزوها المسلمون حتى سقوط مملكة غرناطة عام 897هـ المُوافق فيه 1492م. وخِلال تلك الفترة أسَّس المُسلمون حضارةً عظيمة في البلاد الأندلُسيَّة حتَّى اعتُبرت «منارةُ أوروپَّا» خِلال العُصُور الوسطى، وحصلت حراكات اجتماعيَّة بارزة نتيجة هذا الفتح وتعدُد العرقيَّات البشريَّة التي سكنت البلاد الأندلُسيَّة، فتعرَّبت بعض قبائل البربر وبعض القوط، وتبربرت بعض قبائل العرب، واختلط العرب والبربر والقوط وشكَّلوا مزيجًا سُكانيًّا فريدًا من نوعه في العالم الإسلامي، وأقبل القوط الذين بقوا على المسيحيَّة على تعلُّم اللُغة العربيَّة والتثقُّف بِالثقافة الإسلاميَّة مع حفاظهم على خُصوصيَّتهم الدينيَّة، فعُرفوا بِالمُستعربين، وكتبوا لُغتهم بِالأحرف العربيَّة التي عُرفت باسم «اللُغة المُستعربيَّة».

عُبُور طارق بن زياد والانتصارات الأولى :

شجَّع نجاح طريف مُوسى بن نُصير على المضي في خطَّته بِفتح الأندلُس بِتكتُّمٍ شديدٍ حتَّى لا يتسرَّب خبرها إلى القوط. وبعد انتهاء الاستعدادات وإتمام التجهيزات، أعدَّ قُوَّةً عسكريَّةً مُؤلَّفة من سبعة آلاف مُقاتل مُعظمهم من البربر والموالي، في حين تُقدِّرُ بعض المراجع الغربيَّة عدد جيش المُسلمين بين 1,700 و12,000 مُقاتل، ولم يتعدَّى عدد المُقاتلين العرب الثلاثمائة، وقيل كان فيهم ستَّة عشر رجلًا من العرب فقط، واختار لها أحسن قادة المُسلمين آنذاك، وأشدُّهم ثقة به، وهو طارق بن زياد. والواقع أنَّ حملة مُعظم أفرادها من البربر تُعدُّ سابقة تحدث لِأوَّل مرَّة في الفُتُوح الإسلاميَّة، وهو اختيارٌ مقصود من والي إفريقية بِفعل أنَّ سياسته المرنة مع البربر قد أثمرت ودفعت هؤلاء إلى مُشاركة العرب في الجهاد. وكان لِهذه السياسة ردُّ فعلٍ إيجابيٍّ على الطرفين. فقد رأى مُوسى بن نُصير أن يستفيد من طاقات البربر العسكريَّة ويكسب مودَّتهم، ولم يكن البربر أقل تجاوُبًا. يُضافُ إلى ذلك، فقد كان طارق بن زياد على معرفةٍ وثيقةٍ بِأوضاع الأندلُس بِفعل مُجاورة البربر لِلقوط وتعامُلهم التجاري معهم، كما تولَّى بِنفسه جمع المعلومات عنها، وأجرى المُفاوضات الأوليَّة من يُليان. وبِشكلٍ عام، أضحى هذا القائد خبيرًا بِالميدان الجديد من سائر نواحيه السياسيَّة والعسكريَّة، ويُعد اختياره خُطوة صائبة، إذ أثبتت مدى ما يتمتَّع به مُوسى بن نُصير من تفكيرٍ مُستنير، وخبرة في الشؤون العسكريَّة. والواقع أنَّ مُوسى بن نُصير سلك نهج أقرانه من القادة العسكريين الذين فتحوا الشَّام والعراق وفارس ومصر وإفريقية، وهو إرسال حملة قليلة العدد ثُمَّ تُعزَّز بِإمدادات لا تتوقَّف حتَّى يتم تحقيق الأهداف، كما أنَّ ذلك كان مقصودًا لِعدم إثارة ريبة يُليان. غير أنَّ هذا القائد لم يشأ أن تكون لِلحملة سمة بربريَّة مُطلقة، فأنشأ مجلسًا استشاريًّا لِمُساعدة طارق بن زياد في إدارة العمليَّات العسكريَّة، مُعظم أعضائه من العرب، واشترك القائد البربري «منوسة» في الحملة. عبر طارق المضيق يوم الإثنين في 5 رجب 92هـ المُوافق فيه 28 نيسان (أبريل) 711م، على متن أربع سُفن تجاريَّة قدَّمها يُليان. والواقع أنَّ طابع الحملة السرِّي دفع مُوسى بن نُصير إلى الاعتماد على سُفن يُليان التجاريَّة، ونزل طارق مع جُنُوده أمام جبل كالبي المنيع الذي حمل اسمه مُنذ ذلك الحين وصار يُعرف بـ«جبل طارق»، واتخذه مركزًا لِتجمُّع قُوَّاته وقاعدة لِلانطلاق إلى الداخل الأندلُسي. وحتَّى يُؤمِّن على جُنُوده ضدَّ أي هُجومٍ مُفاجئ من جانب القوط، سوَّر تلك القاعدة وحصَّنها.

تعدَّدت الروايات في المصادر الإسلاميَّة التي تحدثت عن شخصيَّة طارق بن زياد وفضله في فتح الأندلُس، ومن أبرز تلك الروايات ما نقلهُ ابن الأثير من أنَّ طارقًا لمَّا ركب البحر من المغرب إلى الأندلُس غلبته عيناه، فنام ورأى الرسول مُحمَّد في منامه ومعهُ المُهاجرين والأنصار قد تقلَّدوا السُيُوف وتنكَّبوا القسيّ، فقال لهُ النبيّ: «يَا طَارِق، تَقَدَّم لِشَأنِك»، فنظر طارق فرأى وأصحابه قد دخلوا الأندلُس أمامه، فاستيقظ من نومه مُستبشرًا وبشَّر أصحابه، وقويت نفسه ولم يشُك بِالظفر. فإذا صحَّت الرواية في هذه الرؤيا فإنَّها تدُل على رغبة طارق في تحقيق فتح الأندلُس وعلى اعتلاج هذه الرغبة في عقله الباطن. ويبدو أنَّ مُوسى كان قد أمر طارقًا، من باب الاحتياط، أن يعود إلى إفريقية إذا ظفر في قتال القوط في الأندلُس، أو أن يلبث مكانه ينتظر منه أمرًا جديدًا. وكذلك كان مُوسى قد بعث يُليان مع طارق لِيدُلَّهُ على عورات البلاد ولِيتحسس لهُ الأخبار. والواقع أنَّ خدمات يُليان لم تقتصر على تسهيل العُبُور إلى الأندلُس، بل أدَّى هذا الرجل دورًا بارزًا في عمليَّة الفتح، إذ كانت معلوماته القيِّمة عن أوضاع مملكة القوط والاتفاقيَّات التي عقدها مع المُعارضة القوطيَّة واليهود، السَّاخطين على حُكم لُذريق؛ كان لها أثرها الإيجابي في نجاح المُسلمين. والرَّاجح أنَّ اندلاع ثورة البشكنس (الباسك) في الشمال، في الوقت الذي عبر فيه المُسلمون بحر الزقاق، لم يكن صدفة، بل كان بالتنسيق مع المُعارضة لِإلهاء لُذريق في مناطق بعيدة عن الخطر الإسلامي. ولم يكد طارق بن زياد يستقر مع جُنُوده في قاعدته عند الجبل، حتَّى بادر باستكشاف المنطقة تمهيدًا لِلسيطرة على المناطق المُجاورة المُحيطة بِبحر الزقاق، بهدف تأمين مؤخرة جيشه والمُحافظة على خُطوط مُواصلاته مع قواعده في شمالي أفريقيا. وتنص بعض المصادر العربيَّة والإسلاميَّة أن طارق بن زياد أقدم على إحراق السُفن التي عبر عليها بحر الزقاق، حتَّى يقطع على جُنُوده كُل أمل بِالعودة إلى المغرب، ويُحفِّزهم على الاستبسال في القتال. أرسل طارق بن زياد قُوَّةً عسكريَّةً بِقيادة عبد الملك بن أبي عامر، سارت بِمُحاذاة الساحل الشمالي الغربي، وفتحت مدينة قرطاجنة، ثُمَّ توجَّهت جنوبًا وفتحت مدينة الجزيرة الخضراء الواقعة قِبالة جبل طارق. فوجئ لُذريق، الذي كان في مدينة بنبلونة في الشمال، بِنُزول المُسلمين في بلاده، بيد أنَّهُ لم يتهيَّب الموقف لِلوهلة الأولى، لاعتقاده بِأنَّ المسألة لا تعدو أن تكون غزوة من غزوات النهب، لن تلبث أن تتلاشى، ولكنَّهُ مع ذلك قوَّم الموقف حين وصلت إلى مسامعه معلومات تُفيد عن تقدُّم هؤلاء باتجاه قُرطُبة، فأسرع إلى طُليطلة لِحشد طاقات المملكة، وأرسل قُوَّةً عسكريَّةً على وجه السُرعة بِقيادة ابن أُخته «بنشيو»، لِلتصدّي لهم، فاشتبك معهم في قتالٍ خفيفٍ انتهى بِمقتله وانتصار المُسلمين. وجرت المعركة بِالقُرب من الجزيرة الخضراء، وفرَّ من نجا من جُنُوده باتجاه الشمال لِيُخبروا لُذريق بما جرى، وبِفداحة الخطر القادم من الجنوب.

معركة وادي لكة :

طلب لُذريق من جميع الأشراف والنُبلاء والإقطاعيين أن يحشدوا المُقاتلين، وأخذت الإمدادات ترد عليه من كُل المناطق، حتَّى اجتمع لديه في وقتٍ قصير ما بين أربعين إلى مائة ألف مُقاتل، كما طلب المُساعدة من أولاد غيطشة نظرًا لِعُموميَّة المحنة، ولكن هؤلاء ظلّوا على ولائهم، سرًا، لِلخطَّة التي وضعوها مع يُليان من أجل الإطاحة به، ومع ذلك فقد استجاب له اثنان منهم هُما «ششبرت» و«أبَّة»، لكن ظاهريًّا فقط، وهُما ينويان الغدر به، فرحَّب بهما، وعيَّن الأوَّل على ميمنته والثاني على ميسرته. كانت وجهة لُذريق مدينة قُرطُبة لِلمُحافظة عليها نظرًا لِأهميَّة موقعها الوسطي بين العاصمة طُليطلة والجزيرة الخضراء، وهي مفتاح الطريق الذي يُسيطرُ على الأندلُس الجنوبيَّة الشرقيَّة، فوصل إلى ضواحيها ثُمَّ تاريع زحفه باتجاه الجنوب. وأخذت أخبار لُذريق تصل إلى مسامع طارق بن زياد، فتهيَّب الموقف، وأدرك أنَّهُ لا طاقة لهُ على مواجهته بِهذا العدد الضئيل نسبيًّا الذي معه، فأرسل إلى مُوسى بن نُصير يشرح لهُ الموقف ويطلب منهُ الإمدادات. لم يتردَّد مُوسى، لدى استلامه كتاب طارق، وأمدَّهُ بِخمسة آلاف مُقاتل بِقيادة طريف بن مالك. استأنف طارق بن زياد زحفهُ باتجاه الشمال، على أثر وُصول الإمدادات، عبر أرضٍ سهليَّةٍ تتخلَّلُها المُستنقعات، واستقرَّ به المقام أخيرًا حول بُحيرة لاخندا من كورة شذونة، والتي يخترقها نهر برباط الصغيرن وعسكر على ضفَّته اليُسرى، ثُمَّ وصل لُذريق وعسكر على الضفَّة اليُمنى لِلنهر. وكان في ذلك المكان قرية صغيرة سمَّاها المُسلمون «لكة» أو «بكة»، ومنها جاء اسم المعركة. تنصُّ بعض المصادر العربيَّة والإسلاميَّة أنَّ طارق بن زياد خطب بالمُسلمين خطبةً قويَّةً يُشجعهم فيها ويحُثُّهم على القتال والجهاد، جاء فيها:
أيُّهَا النَّاس إلى أينَ المَفَر؟ البَحرُ وَرَائَكُم وَالعَدُوُّ أَمامَكُم، فَلَيْسَ وَالله إلَّا الصِّدقُ والصَّبرُ فِإنَّهُما لا يُغلَبَان، وَهُمَا جُندَانِ مَنصُورَان لا تُضَرُّ مَعُهُما قِلَّة وَلا يَنفَعُ مَعَهُمَا الخَورُ وَالكَسَل وَالإِختِلَافُ وَالفَشَل، وَالعَجَبُ كِثرَة. أيُّهَا النَّاس، مَا فَعَلتُ مِن شَيءٍ فافعَلُوا مِثلُه، وإن حَمَلتُ فَاحمِلُوا وإن وَقَفتُ فَقِفُوا، وَكُونُوا كَهَيبةِ رجُلٍ وَاحدٍ في القِتَالِ، وَإِنِّي صَامِدٌ إلى طَاغِيَتِهِم لا أَتَهَيَّبُه حتَّى أُخَالِطُه، أو أُقتَلُ دُونُه، فَلَا تَنَازَعُوا إن قُتِلت فَتَفشَلُوا وَتذهَبَ رِيحُكُم، وَتُولُوا الأَدبَار لِعَدُوِّكُم فَتَتَبَدَّدوا بَينَ قَتيلٍ وَمَأسُورٍ. وإيَّاكُم أن تَرضَوا بِالدُنيَا ولا تُعطُوا بِأيدِيَكُم مَا قد عُجِّلَ لِكُم مِنَ الكَرَامَةِ وَالرَّاحَةِ من المَهَانةِ والذِّلَّةِ، وما قد أُجِّل لكُم من ثوابُ الشَّهادةِ فَإنَّكُم إن تَفعَلُوا، واللهُ يعِظُكم تَتَبَوَّؤا بِالخُسرَانِ المُبِين وَسُوءِ الحَديث، غدًا بَينَ مَن عَرَفَكُم مِنَ المُسلِمين، ومَا أنَا ذا حتَّى أَغشَاه فَاحمِلُوا بِحَملَتِي، وَأَنَا غَيرُ مَقصُودٍ دُونِهِ.
تقابل الجمعان يوم الأحد 28 رمضان 92هـ المُوافق فيه 19 تمُّوز (يوليو) 711م، واشتبكا في قتالٍ عنيفٍ استمرَّ سبعة أيَّام. ولمَّا تراءى الجيشان ثبت طارق في مكانه وأطمع لُذريق في أن يقطع المُستنقعات إليه، على غرار الخطَّة التي كان خالد بن الوليد قد رتَّبها على نهر اليرموك. تكبَّد لُذريق الكثير من القتلى والجرحى خِلال المعركة، وحدث في اليوم الرابع من القتال أن انسحب ابنا غيطشة ششبرت وأبَّة مع فُرسانهما من الجناحين وانضمَّا إلى صُفُوف المُسلمين، وفق الخطَّة الموضوعة، ممَّا أدَّى إلى تضعضع صُفوف الجيش القوطي، وبدأ أفراده بِالترنُّح والهرب طلبًا لِلنجاة. والمعروف أنَّ هذا الجيش ضمَّ كثيرًا من العبيد الساخطين على حُكم القوط ويتمنون زواله، فوجدوا في تلك المعركة فُرصتهم لِلخلاص، لِذلك تراخى هؤلاء في القتال قبل أن يفُرُّوا بعد انسحاب الفُرسان من الجناحين، وأضحى لُذريق لا يملك القُوَّة الكافية لِلاستمرار في القتال، ومع ذلك فقد صمد حتَّى اليوم الثامن، وعندما تحقَّق من هزيمته، هرب من ميدان المعركة من دون أن يُعرف مصيره بِالضبط، وقد وُجد فرسه بِالقُرب من إحدى المُستنقعات، كما وُجد أحد خُفَّيه وهو طافٍ فوق الطين الأسود، ممَّا يدُل على أنَّهُ وقع عن حصانه لدى وُصوله إلى المُستنقع وغاص فيه من دون أن يتمكَّن من الخُروج فغرق، وفرَّ من نجا من جُنوده إلى الداخل نحو المعاقل والحُصُون. ويذكر عدد من المُؤرِّخين المُحدثين أنَّ لُذريق لم يُقتل في تلك المعركة، بل انسحب نحو الشمال، إلى ماردة، ثُمَّ إلى سلسلة جبال سلمنقة لِيُعيد تنظيم صُفُوف قُوَّاته، وأنَّهُ قُتل في المعركة الثانية مع المُسلمين، التي واجه فيها جيش مُوسى بن نُصير وطارق بن زياد، في السواقي، على يد مروان بن مُوسى بن نُصير. على أنَّ المصادر الإسلاميَّة لا تُكرر ذكر لُذريق بعد معركة وادي لكة، أضف إلى ذلك، ظهرت في الأندلُس الملاحم التي ظلَّ الناس يتناقلونها على مدى أجيال، وفحواها أنَّ لُذريق سيعود لِتخليص البلاد من أيدي المُسلمين. كانت معركة وادي لكة كاليرموك في الشَّام والقادسيَّة في العراق ونهاوند في فارس، إذ دمَّرت القُوَّة الميدانيَّة لِلجيش القوطي ممَّا أفقده القدرة على الدفاع عن المُدن الكُبرى، وأضحت المُقاومة بعدها قصيرة الأمد، ممَّا هيَّأ لِلمُسلمين أن ينسابوا إلى جوف الأندلُس ويفتحوا المُدن ويستقرّوا فيها. تكبَّد المُسلمون ثلاثة آلاف قتيل، أمَّا قتلى القوط فكانوا أضعاف ذلك لِأنَّ عدد الذين نجوا من المعركة وفرّوا، بعد ذلك، كان قليلًا. وحاز المُسلمون على جميع ما كان في مُعسكر القوط من العدَّة والمتاع والمُؤن والأموال، وقُسِّم الفيء بين الآلاف التسعة الذين نجوا، فأصاب كُلًا منهم مائتان وخمسون دينارًا.

فتح إستجَّة :

كتب طارق بن زياد إلى مُوسى بن نُصير بِالقيروان يُبشِّره بِالنصر، ويُخبره بِأنَّ الطريق بات مفتوحًا أمامهُ لِلوًلوج إلى قلب البلاد. فأرسل مُوسى بن نُصير بِدوره تقريرًا مُفصلًا إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك في دمشق يصف فيه الانتصار الكبير، الذي أكسب الإسلام أرضًا جديدة، وقال: «لَم يَكُن هَذَا فَتحًا كَغيرِهِ مِنَ الفُتُوحِ يَا أَمِيرَ المُؤمِنِين، فَإِنَّ الوَاقِعَةَ كَانَت أَشبَه بِاجتماعِ الحَشرِ يَومَ القِيَامَة»، فاستبشر الوليد خيرًا بِهذا النصر، وسمح لِلقادة المُسلمين بِمواصلة الطريق، وفي نفس الوقت تناهى إلى أسماع المُسلمين في المغرب والشَّام ومصر بانتصار طارق بن زياد، فتطوَّعوا من كُل جهة لِلحاق به والمُساهمة معهُ في فتح الأندلُس. ازدادت قُوَّة المُسلمين بعد معركة وادي لكة وارتفعت معنويَّاتهم بعد ذلك الانتصار، ومن جهةٍ أُخرى أصاب القوط الارتباك والذُعر، الأمر الذي أتاح لِطارق بن زياد أن يستغل هذا الوضع كي لا يُتيح لِلجيش القوطي فُرصة لِإعادة التنظيم والتجمُّع، ويدعم سيطرته على جنوبي الأندلُس، فبدأ ما يُمكن تسميته بـ«حرب المُدن». فتح المُسلمون مدينة شذونة بعد انتهاء المعركة، ثُمَّ توجهوا نحو مدينة إستجَّة الواقعة على الطريق المُؤدي إلى قُرطُبة، حيثُ احتشدت فيها فُلُول القوط الهاربة في مُحاولةٍ لِمنع المُسلمين من دُخولها، وفتح طارق بن زياد في طريقه مدينة مورور في منطقة إشبيلية، ولمَّا وصل إليها ضرب الحِصار عليها. ونظرًا لِمناعتها اضطرَّ إلى طلب المُساعدة من يُليان الذي كان آنذاك في الجزيرة الخضراء، فجاء سريعًا واشترك معهُ في الحصار. وجرت مُناوشات شديدة بين المُسلمين وحامية المدينة كثُر فيها القتل والجراح، وبعد مُرور عدَّة أشهر من الحصار أدرك حاكم المدينة صُعوبة الاستمرار في المُقاومة فاستسلم، ودخل المُسلمون المدينة وفرضوا الجزية على سُكَّانها بعد تأمينهم على حياتهم ودينهم وكنائسهم وأديرتهم، وهربت فُلول القوط إلى مُدنٍ أُخرى. وانضمَّ إلى طارق بن زياد في إستجَّة، جمعٌ غفيرٌ من الساخطين على النظام الملكي القوطي، ممَّن فضَّلوا التحالف مع المُنتصر على ذُل العُبوديَّة. وقدَّم لهُ اليهود العون العسكري كأدلَّاء أرشدوه إلى أيسر الطُرق والمسالك عبر أراضي الأندلُس الشاسعة، بِالإضافة إلى الخدمات المدنيَّة، مُستبشرين بِزوال حُكم القوط ونجاتهم من اضطهادات رجال الحُكم البائد، فكان هذا الدور نابعًا من موقفهم من النظام القوطي الذي أضرَّ كثيرًا بِمصالحهم التجاريَّة والمصرفيَّة، ومع ذلك، فقد بولغ بِالدور الذي ساهم فيه هؤلاء في الفتح لا سيَّما من قِبل بعض المُؤرخين الإسپان، بِهدف مُحاولة التلميح بِأنَّ المُسلمين لم يتمكَّنوا من فتح البلاد لولا مُساعدة اليهود.

فتح قُرطُبة :

أضحى الطريق مفتوحًا أمام طارق بن زياد لِلزحف إلى قُرطُبة، غير أنَّهُ عدل عن خطَّته وقرَّر التوجُّه نحو طُليطلة عاصمة القوط بِسبب ما استجدَّ فيها من أحداث، حيثُ برز التنافُس بين الجماعتين المُتنافرتين: جماعة لُذريق وجماعة آل غيطشة، ذلك أنَّ الهيئات الحاكمة بدأت تُعيد تنظيم صُفوفها لِلتصدي لِلمُسلمين بعد أن تناهت إلى أسماعها الشائعات بِأنَّ لُذريق لم يُقتل، وفي الوقت نفسه، راح أنصار آل غيطشة يعقدون الاجتماعات، بِدورهم، في طُليطلة ويتشاورون فيما بينهم لِإعلان أحدهم ملكًا مكان لُذريق المهزوم، وبذل أخيلا جُهدًا كبيرًا في مُحاولةٍ لِإقناع مجلس المدينة بالاعتراف به ملكًا وسط الذُعر الذي ساد الجميع عقب الهزيمة. لِذا كان على طارق بن زياد أن يزحف بسُرعة إلى عاصمة القوط قبل أن يتمكَّن أي طرف من الطرفين المُتنازعين من السيطرة عليها، ممَّا قد يُصعِّب على المُسلمين مُواجهة الموقف، والمعروف أنَّ آل غيطشة ظلُّوا واهمين بِأنَّ المُسلمين لم يدخُلوا الأندلُس لِيستقرُّوا فيها، بل لِمُساعدتهم على استعادة الحُكم مُقابل الحُصُول على الغنائم. وبِفعل أهميَّة قُرطُبة في إحكام السيطرة على جنوبي الأندلُس، استجاب طارق بن زياد إلى نصيحة يُليان الذي قال له: «قَد فَتَحتَ الأَندَلُس، فَخُذ مِن أَصحَابِيَ أَدِلَّاء، فَفَرِّق مَعَهُم جُيُوشك وَسِر مَعَهُم إلى مَدِينَةِ طُلَيطِلَة»، ففصل فرقةً عسكريَّةً تُقدَّر بِسبعُمائة فارس، بِقيادة مُغيث الرومي، مولى عبد الملك بن مروان، وأرسلهُم إلى قُرطُبة لِفتحها. عسكر مُغيث الرومي في قرية شقندة على بُعد ثلاثة أميال من قُرطُبة، وأرسل الجواسيس لِلوُقوف على أوضاعها، فعلم بِأنَّ النُبلاء غادروا المدينة ولم يبق فيها سوى الضُعفاء وحامية عسكريَّة تُقدَّر بِأربعمائة مُقاتل بِقيادة حاكم المدينة، فزحف إليها وضرب حصارًا عليها واقتحمها، وفرَّت حاميتها إلى كنيسة تقع في غربيّ المدينة وتحصَّنت فيها، فضرب مُغيث الرومي الحصار عليها، وضيَّق على من فيها وقطع الماء عنهم، واستمرَّ الحصار مُدَّة ثلاثة أشهر تضايق المُحاصرون خلالها واضطرُّوا إلى إخلائها والاحتماء بِجبل قُرطُبة. وما أن خرج الحاكم من الكنيسة حتَّى شاهده مُغيث الرومي، فطارده وقبض عليه، فلمَّا شاهد أفراد الحامية ما حلَّ بِقائدهم استسلموا، فقتلهم مُغيث الرومي، وأبقى على حياة القائد لِيُسلِّمه إلى الخليفة. أمَّا مصير السُكَّان الذين احتموا بِالكنيسة، فتقول إحدى الروايات أنَّ مُغيث الرومي أمَّنهم على حياتهم ومُمتلكاتهم ودينهم، وفي روايةً أُخرى أنَّهُ دعاهم إلى الإسلام أو الجزية فرفضوا، عندئذٍ أضرم النار في الكنيسة فاحترقوا، وسُمِّيت هذه الكنيسة بِـ«كنيسة الحرقى» أو «كنيسة الأسرى»، واستمرَّ المسيحيُّون في الأندلُس يُعظمونها لِصبر من كان فيها على دينهم من شدَّة البلاء.

تقسيم الجيش الإسلامي :

قسَّم طارق بن زياد الجيش الإسلامي أربعة أقسام: بعث قسمًا منهُ بِقيادة مُغيث الرومي إلى قُرطُبة كما أُسلف، وبعث قسمًا آخر إلى مالقة، ثُمَّ بعث قسمًا ثالثًا إلى إلبيرة وأمرهُ بِأن يُتابع طريقه بعد ذلك إلى مرسية. ثُمَّ سار هو بِبقيَّة الجيش في اتجاه طُليطلة. وكان قد جعل في كُلٍ من هذه الأقسام أدلَّاء من أصحاب يُليان. أمَّا الجيش الذي توجَّه إلى قُرطُبة فقد فتحها كما أُسلف، وأمَّا الجيش الذي توجَّه إلى مالقة، على الشاطئ الجنوبي من الأندلُس، فقد فتحها وجميع أعمالها فتحًا يسيرًا هيِّنًا، بعد أن هربت حاميتها من القوط والفرنجة إلى جبال رية واعتصموا بها. ولم يجد المُسلمين في مالقة يهودًا. وأمَّا الجيش الذاهب إلى إلبيرة فاتجه أولًا جنوبًا في شرق حتَّى فتح أُرشُذونة ثُمَّ عطف شرقًا نحو غرناطة مدينة كورة إلبيرة ففتحها فتحًا هيِّنًا، لِأنَّ كثيرًا من أهلها كانوا يهودًا، وقد استعان المُسلمين بهم على ضبط المدينة وإدارتها ومُساندة الحامية الإسلاميَّة فيها. وكان في الجيش الذي فتح غرناطة المُجاهد المشهور حنش بن عبد الله الصنعاني، فأسَّس فيها مسجدًا. ثُمَّ سار الجيش نفسه الذي كان قد سار إلى غرناطة إلى مرسية، في الجانب الشرقي الجنوبي من الأندلُس. وكان في مرسية نبيلٌ قوطيّ عرفهُ المُسلمين باسم «تُدمير بن عبدوس» (ويُلفظ في لُغته الأُم «ثيوديمير» أو «تيودمير») يعيشُ شبه مُستقل في تلك المنطقة مُنذ أيَّام لُذريق، الذي قيل بأنَّهُ استخلفهُ على الأندلُس قُبيل اندلاع معركة وادي لكة وقال لهُ: «قَد وَقَعَ بِأَرضِنَا قَومٌ لَا نَدرِي مِن أَهلِ الأَرضِ هُم أَم مِن السَّمَاء». واختار تُدمير هذا أن يُقاوم المُسلمين فانهزم أمامهم هزيمة مُنكرة في قرطاجنة، وهي ثغر مدينة مرسية، حتَّى كاد جيشه أن يفنى. عندئذٍ انسحب تُدمير بِمن بقي معه إلى مدينة أوريولة، وعمد إلى الحيلة، فأمر النساء فنشرن شُعورهُنَّ ثُمَّ أعطاهُنَّ القصب وأوقفهُنَّ على سور المدينة وأوقف معهُنَّ بقيَّة الرجال لِيُوهم المُسلمين بِأنَّ في المدينة حُماةً كثيرين، كما ذهب بنفسه إلى المُسلمين مُتنكرًا على هيئة رسولٍ مُفاوض، فاستأمن على نفسه وما يملك من بلاد، فأمَّنهُ المُسلمين على ذلك كُلِّه، وعقد عبدُ العزيز بن مُوسى بن نُصير بينه وبين تُدمير مُعاهدة، جاء فيها:
كتابٌ من عبدُ العزيز بن مُوسى بن نُصير لِتُدمير بن عبدوس أنَّهُ نزل على الصُلح، وأنَّ لهُ عهد الله وذمَّة نبيِّه ألَّا يُقدَّم لهُ ولا لِأحدٍ من أصحابه ولا يُؤخَّر، ولا يُنزع من مُلكه، وأنَّهُم لا يُقتلون ولا يُسبون ولا يُفرَّق بينهم وبين أولادهم ولا نسائهم، ولا يُكرهوا على دينهم ولا تُحرق كنائسهم ولا يُنزع من كنائسهم ما يُعبد. وذلك ما أدَّى الذي اشترطنا عليه. وأنَّهُ صالح على سبع مدائن: أوريولة وبلتنة ولقنت ومولُه وبلَّانة ولورقة وألُه، لا يُؤوي لنا آبقًا ولا يُؤوي لنا عدُوًّا ولا يُخيفُ لنا آمنًا ولا يكتُمُ خبر عدوٍّ علمه. وصالح على أنَّ عليه وعلى كُل واحدٍ من أصحابه دينارًا كُلَّ سنة وأربعة أمداد قمح وأربعة أمداد شعير وأربعة أقساط طِلاء وأربعة أقساطٍ خل وقِسطيّ عسل وقسطيّ زيت. وعلى العبد نصف ذلك. وكُتب في رجب في سنة 94 من الهجرة.
فلمَّا تسلَّم تُدمير كتاب الصُلح هذا من عبد العزيز بن مُوسى أدخل المُسلمين إلى أوريولة فرأوا ما فيها من ضعف الحامية وأدركوا خدعة تُدمير وعلموا أنَّهُ كان بإمكانهم دُخُول المدينة عنوة. وقد أسفوا لِما حدث، ولكنَّهم وفوا لِتُدمير بما كانوا قد شرطوا له على أنفُسهم في كتاب الصُلح.

فتح طُليطلة :

عبر طارق بن زياد نهر الوادي الكبير عند منجيبار وتقدَّم نحو الشمال عبر الطريق الروماني القديم المُسمِّى «طريق حنبعل» (نسبةً إلى القائد القرطاجي حنبعل أو هنيبعل الذي مرَّ عبره أثناء حملته على روما خِلال الحُروب البونيقيَّة)، فألقى نفسهُ أمام العاصمة القوطيَّة. كانت المدينة خالية ممن يحميها أو يُدافع عنها، فقد فرَّت منها حاميتها مع كبار رجال الدولة، عندما علموا بِتقدُّم المسلمين باتجاه مدينتهم في جوٍ من الارتباك من واقع عدم قُدرتهم على الصُمُود والمُقاومة، فهرب حاكمها إلى مدينةٍ خلف الجبل يُقالُ لها «ماية»، وكذلك كان أُسقفها «سندريد» قد تركها أيضًا ولحق بِروما، كما غادرها مُعظم السُكَّان باستثناء اليهود، فدخلها طارق بن زياد من دون قتال. وبعد أن تعرَّف على أوضاعها، ترك فيها حامية عسكريَّة وغادرها باتجاه الشمال لِتعقُّب فُلُول الهاربين. فسلك وادي الحجارة واجتاز الجبل عبر ممر فج، فألقى نفسه أمام قريةٍ تقع خلف الجبل على مقرُبةٍ من قلعة هنارس، أطلق المُسلمون عليها اسم «المائدة»، لِأنَّهُم عثروا فيها على كنزٍ ثمينٍ هو عبارة عن أواني ذهبيَّة مُرصَّعة بِالجواهر والأحجار الكريمة تُشبه أواني الموائد التي يستعملها المُلوك عادةً، فنسبوها إلى النبي سُليمان بن داود. بعد ذلك تابع المُسلمون توغُّلهم في منطقة وادي الحجارة، وفتحوا قلعة هنارس، ثُمَّ عاد طارق بن زياد بِجيشه إلى طُليطلة لِيقضي فيها فصل الشتاء، ولِيدرُس خطَّة المرحلة التالية من الفتح على ضوء ما يستجد من تعليمات والي إفريقية. ومع ذلك فهُناك روايات تُشير إلى أنَّهُ استمرَّ في زحفه حتَّى وصل إلى مدينة أماية في منطقة بُرغُش في إقليم كنتبرية في أقصى شمال شبه الجزيرة الأيبيريَّة، وتابع تقدُّمه إلى مدينة أسترقة في إقليم أشتوريس، حيثُ استقرَّ بها حتَّى وافاه مُوسى بن نُصير فيما بعد، ويذهب بعض المُؤرِّخين المُحدثين أنَّهُ استرسل في التقدُّم حتَّى أشرف على مدينة خيخون المُطلَّة على خليج غسكونية. والواقع أنَّهُ من الصعب على طارق بن زياد أن يصل إلى تلك المناطق النائية عبر أراضٍ جبليَّة، وبِخاصَّةٍ أنَّ جيشه قد أجهده المسير الطويل والشاق وهو مُثقل بِالغنائم، وقد أضحى فصل الشتاء على الأبواب، كما أنَّهُ لم يكن قد ثبَّت أقدامه في الأراضي المفتوحة. ولا شكَّ بِأنَّهُ أدرك أنَّ ابتعاده عن طُليطلة رُبَّما يُشجِّعُ أعداءه على إعادة تنظيم صُفوفهم واسترداد ما خسروه، يُضافُ إلى ذلك، أنَّهُ لم يكن هدفه آنذاك تعقُّب الفارّين بعد أن حصروا أنفُسهم في إقليم أشتوريس بِقدر ما كان هدفه تصفية مراكز المُقاومة في المناطق المفتوحة، وتثبيت أقدامه فيها خشية عودتهم إلى تهديد العاصمة، لِذلك كانت إقامته في طُليطلة ضروريَّة لِتحقيق هذا الهدف. وهكذا، ففي أقل من سنة فتح المُسلمون جنوبي أيبيريا ووسطها وثبَّتوا أقدامهم في أرض الأندلُس، وقضوا على المملكة القوطيَّة المُتداعية.

عُبُور موسى بن نُصير :

كان رد الفعل لِنجاح طارق بن زياد كبيرًا في شمالي أفريقيا، فقد توجَّه البربر إلى الأندلُس بعد سماعهم بانتصارات المُسلمين هُناك، وبدأوا بالاستقرار في المناطق السهليَّة من البلاد لا سيَّما تلك التي هجرها سُكَّانها الذين هربوا إلى القلاع والحُصُون. وكان مُوسى بن نُصير يُتابعُ تحرُّكات طارق بن زياد العسكريَّة خُطوةً خُطوة، ويبدو أنَّهُ أدرك خُطورة الانتشار الواسع لِلقُوَّات الإسلاميَّة بدون تغطية عسكريَّة كافية، الأمر الذي يُسهِّل على العدو مُهاجمتها، من دون أن تتمكَّن من اتخاذ وسائل الدفاع المُناسبة عن نفسها، فتضيع ثمرات النصر، ذلك أنَّ خُطوط مُواصلاتها، بين طُليطلة والجزيرة الخضراء والمغرب، أضحت غير آمنة، لِأنَّ المعاقل الكُبرى المُبعثرة على امتداد تلك الخُطوط لم تخضع لِلمُسلمين، وما زالت جماعاتٌ من القوط تحكم المُدن الواقعة وراء خُطوط مواصلاتهم، وتنتظر الوقت المُناسب للانقضاض عليهم. كما يبدو أنَّهُ رأى أنَّ قائده استنفذ طاقاته القتاليَّة بعد الجُهد الكبير الذي بذله، وبِخاصَّةً أنَّ عدد جُنُوده لم يكن كافيًا لِفتح تلك البلاد الواسعة والدفاع عن المُنجزات المُكتسبة، ولا بُدَّ من دعمه بِمددٍ عسكريٍّ فضَّل أن يترأسه بنفسه. استخلف مُوسى بن نُصير ابنه عبد الله على القيروان ثُمَّ غادرها على رأس جيشٍ يُقدَّر بِثمانية عشر ألف مُقاتل - وقيل في عشرة آلاف - مُعظمهم من القبائل العربيَّة اليمنيَّة والقيسيَّة والشَّاميَّة، وضمَّ أعدادًا كثيرةً من رجال قُريش البارزين الذين كانوا في مناصب القيادة في القيروان، إضافةً إلى الإداريين ورجال الدين وبقيَّة القادة المشهورين، أمثال: مُحمَّد بن أوس الأنصاري وحبيب بن أبي عُبيدة الفهري وعيَّاش بن أخيل وعبدُ الجبَّار بن أبي سلمى الزهري، واصطحب معهُ عددًا من أولاده. ونهض مُوسى بن نُصير من القيروان في شهر رجب من سنة 93هـ المُوافق فيه شهر نيسان (أبريل) 712م، فعبر مضيق جبل طارق وعسكر في الجزيرة الخضراء في رمضان 93هـ المُوافق فيه حُزيران (يونيو) 712م لِعدَّة أيَّام حيثُ وزَّع المُهمَّات العسكريَّة على قادته.

فتح قرمونة :

عقد مُوسى بن نُصير اجتماعًا مع يُليان الذي اتخذ الجزيرة الخضراء مقرًا له، ناقش فيه التطوُّرات المُستجدَّة، وجرى تقييم حملة طارق. ولعلَّ يُليان زوَّده بِالمعلومات اللازمة عن المعاقل الهامَّة في المناطق التي ما زالت خارج نطاق السيطرة الإسلاميَّة وبِخاصَّةً مدينة إشبيلية، بِالإضافة إلى أفضل الطُرُق التي سيسلُكها، وتقرَّر اعتماد الطريق الغربي المُؤدي إلى إشبيلية، وهو غير الطريق الذي سلكه طارق بن زياد، وذلك بِهدف غزو غربي الأندلُس، وإحكام السيطرة على المنطقة، وبِخاصَّةً أنها كانت مأوى مُعظم الفُلول الهاربة من الجيش القوطي. وقبل أن يُغادر مُوسى بن نُصير الجزيرة الخضراء، أمر بوضع حجر الأساس لِبناء مسجدٍ هُناك تخليدًا لِذكرى حملته هذه، سُمي بِمسجد الرايات. تقدَّمت القُوَّات الإسلاميَّة على الطريق المُؤدي إلى إشبيلية فأعادت إخضاع شذونة بعد أن خرج أهلها عن طاعة المُسلمين، فحاصرهم مُوسى بن نُصير حتَّى أذعنوا من جديد، كما فُتحت قلعة رعوان، ثُمَّ سار المُسلمون إلى مدينة قرمونة المشهورة بِحصانتها، لِذا استخدم مُوسى بن نُصير الحيلة في فتحها، فأرسل بعض الجُند على هيئة المُنهزمين ومعهم السلاح، فأظهروا لِحاميتها أنهم أصدقاء جاؤوا فرارًا من المُسلمين، فسمح لهم أفراد الحامية بِالدُخول. وما أن حلَّ الليل حتَّى هاجم هؤلاء الحُرَّاس، وفتحوا أبواب المدينة لِلجيش الإسلامي الذي دخلها وسيطر عليها. أمَّن فتح قرمونة إقامة خطٍ عسكريٍّ يربط الجزيرة الخضراء بِكُلٍ من شذونة وقرمونة وإستجَّة وقُرطُبة، مُدعَّمًا بِمراكز عسكريَّة، بِالإضافة إلى سيطرة المُسلمين على المراكز الدفاعيَّة الأماميَّة لِإشبيلية.

فتح إشبيلية :

تقدَّمت القُوَّات الإسلاميَّة بعد ذلك إلى إشبيلية التي تُعدُّ من أكبر مُدن القوط بعد طُليطلة، ومصدر الخطر المُباشر على القُوَّات الإسلاميَّة التي كانت تحت قيادة طارق بن زياد في الداخل، ونُقطة التقاء الطُرق الهامَّة في جنوبي الأندلُس، لا سيَّما تلك التي تربط الجزيرة الخضراء بِداخل البلاد، وضربوا عليها حصارًا مُركَّزًا استمرَّ بضعة أشهر، دافع خلالها القوط عن مدينتهم بِضراوة، ممَّا يدُل على خُطُورة مركز القوط بها واستعدادهم لِمُقاومة المُسلمين، ولم تسقط المدينة إلَّا بعد أن تلقَّى مُوسى بن نُصير مُساعداتٍ من الداخل، حيثُ قام اليهود في المدينة بِدورهم المُتفق عليه لِمصلحة المُسلمين، كما أدَّى أُسقفها «أوپاس» دورًا في ذلك، وفرَّت حاميتها إلى مدينة باجة المُجاورة وانضمَّت إلى جُمُوع القوط بها.[63] أمَّن فتح إشبيلية، المركز المُسيطر عسكريًّا على جنوبي الأندلُس، وحرم القوط من قطع خُطوط مُواصلات المُسلمين، وشكَّلت المدينة، بِفعل أهميَّة موقعها، إحدى القواعد الدفاعيَّة الكُبرى لِلمُسلمين في الأندلُس.

حصار ماردة وفتحها :

واصل المُسلمون تقدُّمهم حتَّى ماردة الواقعة في شمال غربيّ الأندلُس في منطقةٍ وعرة المسالك. وكانت ماردة هذه آخر العواصم القديمة الأربع لِلقُوط بعد طُليطلة وإشبيلية وقُرطُبة، وكانت حصينةً جدًا، إذ أحاط بها سورٌ منيع، واحتشدت فيها بقايا القوط وأنصار الملك السابق لُذريق، فمضى إليها مُوسى بن نُصير فقاتلهُ أهلها قتالًا شديدًا على نحو ميلٍ منها أو أكثر قليلًا. وكان أهلُ ماردة يخرُجون لِقتال المُسلمين نهارًا ثُمَّ يلجأون إلى المدينة ليلًا. وفي ذات ليلة أكمن مُوسى الرجال والخيل في حُفر كانت عبارة عن مقالع يقطعُ منها أهل ماردة الحجارة. فلمَّا خرج الأهالي في اليوم التالي على عادتهم لِقتال المُسلمين أثار عليهم مُوسى الكمائن من الرجال والخيل حتَّى أوقع بهم هزيمةً مُنكرة، فانسحبوا نهائيًّا إلى المدينة وجعلوا يُقاتلون المُسلمين من وراء سورها. ضرب المُسلمون الحصار على المدينة بضعة أشهر - قيل أنَّهُ أطول حصارٍ عرفهُ المُسلمون في الأندلُس - ثُمَّ أمر مُوسى بن نُصير بِصُنع دبَّابة، فدبَّ المُسلمون تحتها حتَّى وصلوا إلى أحد أبراج المدينة، وبينما كانوا ينقبون السور اصطدموا بِصخرةٍ صمَّاء طال نقبهم إيَّاها حتَّى تنبَّه أهل ماردة فهاجموهم فهلك جميع المُسلمين الذين كانوا تحت الدبَّابة. وشدَّد مُوسى الحصار على المدينة حتَّى يئس أهلها من الصُمُود في وجه المُسلمين فهرب نفرٌ منهم خفيةً إلى جُليقية في الشمال الشرقي من شبه الجزيرة الأيبيريَّة، ومال الذين آثروا البقاء في مدينتهم إلى طلب الصُلح، فأرسلوا وفدًا إلى مُوسى بن نُصير لِلتفاوض بِشأن الاستسلام، وأسفرت المُفاوضات عن عقد مُعاهدة بين الجانبين جاء فيها: ضمان المُسلمين سلامة جميع الأهالي سواء الذين يُفضلون البقاء في ماردة أو مُغادرتها إلى مكانٍ آخر، وضمان الحُريَّة الدينيَّة لِلسُكَّان وعدم إرغامهم على اعتناق الإسلام والحفاظ على كنائسهم من أن تُهدم، وتسليم الأهالي جميع مُمتلكات وأموال الذين قُتلوا في الحرب إلى المُسلمين، بِالإضافة إلى تلك الخاصَّة بِالهاربين من القوط إلى جُليقية، والأموال والحُليّ التي كانت الكنائس - ذلك لأنَّ القوط كانوا يجعلون من الكنائس قلاعًا يُحاربون المُسلمين من وراء جُدرانها - فقبل أهلُ ماردة بِذلك وتمَّ التوقيع على الاتفاق. وفي يوم 1 شوَّال 94هـ المُوافق فيه 30 حُزيران (يونيو) 713م، فتح السُكَّانُ أبواب مدينتهم إلى المُسلمين، فدخلوها ونشروا راية السلام. وبعد سُقُوط المدينة، نظَّم مُوسى بن نُصير حاميتها العسكريَّة من العرب والبربر من دون اللُجوء إلى جاليتها اليهوديَّة الكبيرة، ولعلَّ هذا مُؤشِّر على أهميَّة المدينة من جهة، وبداية السيطرة الإسلاميَّة المُركَّزة على مرافق البلاد من جهةٍ أُخرى.

انتفاضة إشبيلية :

ظلَّت فُلُول القوط المهزومة، التي التجأت إلى المُدن المُجاورة، خارج نطاق السيطرة الإسلاميَّة، فأخذت تُراقب تحرُّكات المُسلمين وتنتظر الفُرصة المُناسبة لِلانقضاض على الحاميات الإسلاميَّة في المُدن المفتوحة لاستردادها، وبدأت بِإشبيلية، فهاجمتها وقتلت مُعظم أفراد حاميتها البالغ عددهم نحو ثمانين رجلًا، في حين غادر الباقون المدينة ولحقوا بِمُوسى في ماردة. كانت هذه الحركة أوَّل رد فعل قوطي ضدَّ السيادة الإسلاميَّة، وعنوانًا على شدَّة مُقاومة القوط، والخطر الذي كان سيتعرَّض لهُ طارق بن زياد لولا مجيء مُوسى بن نُصير لِإنقاذ الموقف. وما أن انتهى مُوسى بن نُصير من فتح ماردة حتَّى أرسل ابنه عبد العزيز على رأس قُوَّةٍ عسكريَّةٍ إلى إشبيلية لِقمع التمرُّد. نجح عبد العزيز في القضاء على الثورة وأعاد الأُمور إلى نصابها، وحتَّى يُطهِّر المنطقة المُجاورة من المُقاومة القوطيَّة، هاجم لبلة وباجة وأكشونبة الواقعة على شاطئ البحر، فدخلها وقضى على كُل أثر لِلمُقاومة فيها، واحتاط لِلأمر، فترك فيها حامية عسكريَّة تحسُّبًا فيما لو كرَّر القوط مُحاولتهم، فاستقامت أُمُور هذه النواحي الغربيَّة واستقرَّت لِلمُسلمين، وعاد عبدُ العزيز إلى إشبيلية حيثُ تركه والده فيها لِيقضي على ما قد يظهر في نواحيها من مُقاومة. لفتت شدَّة مُقاومة القوط انتباه مُوسى بن نُصير، وحتَّى يدعم مُنجزات المُسلمين، رأى ضرورة وضع المُدن المفتوحة في أيدي قادة من المُسلمين بِدون الاعتماد على السُكَّان المحليين أو غيرهم من الجماعات التي انضمَّت إليه أثناء زحفه، فعيَّن عبد الجبَّار بن أبي سلمى الزهري، قائد ميسرة جيشه، واليًا على باجة.

اللقاء بين موسى بن نُصير وطارق بن زياد :

مكث مُوسى بن نُصير في ماردة مُدَّة شهر أراح فيها جُنده قبل أن يستأنف السير إلى طُليطلة، واستدعى طارق بن زياد لِيُقابله في الطريق، وفي روايةٍ أُخرى أنَّ طارقًا علم بِقُدُوم مُوسى إلى طُليطلة فخرج لاستقباله. خرج طارق بن زياد من طُليطلة وانحدر منها في حوض نهر تاجة حتَّى لقي سيِّدُه في مكانٍ يُدعى «المعرض» بين نهري تاجة والتيتار، وهو كورة من كُور مدينة طلبيرة على بُعد سبعين ميلًا إلى الغرب من طُليطلة. وعقد الرجُلان مجلسًا عسكريًّا قوَّما فيه الموقف العسكري العام، وناقشا خطَّة المرحلة التالية من الفتح. ويكاد يجمع المُؤرخون العرب والمُسلمون على أنَّ لقاء مُوسى بِطارق لم يكُن وديًّا لِأسبابٍ مُختلفة، على أنَّ مراجع أُخرى تُشير إلى اعتراف مُوسى بن نُصير بِمكانة طارق بن زياد وفضله في فتح الأندلُس، بحيث خاطبه قائلًا: «لَن يُجَازِيكَ الوَلِيدُ بنُ عَبدِ المَلِكِ عَلَى بِلَائِكَ بِأَكثَرَ مِن أَن يُبِيحَكَ الأَندَلُسِ، فَاستَبِحهُ هَنِيًّا مَرِيًّا»، فقال لهُ طارق: «أَيُّهَا الأَمِير، وَاللهِ لَا أَرجِعُ عَن قَصدِيَ هَذَا مَا لَم أَنتَهِيَ إِلَى البَحرِ المُحِيطِ أَخُوضُ فِيهِ بِفَرَسي»، - يعني أنَّهُ لن يتوقَّف عن الغزو والجهاد قبل أن يبلغ بحر الشمال أي المُحيط الأطلسي - من ناحية شمال شبه الجزيرة الأيبيريَّة، فيضُم كُل تلك البلاد لِديار الإسلام.

فتح شمال أيبيريا :

عاد مُوسى وطارق إلى طُليطلة وقضيا فيها شتاء سنة 95هـ المُوافقة لِسنتيّ 713-714م، وأرسل موسى الخبر بِالفتح وبِالغنائم إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك في دمشق مع علي بن رباح اللخمي ومُغيث الرومي. وفي طُليطلة سكَّ مُوسى بن نُصير الدراهم والدنانير الأندلُسيَّة الأولى، مضروبة بِاللُغة العربيَّة والألفاظ الإسلاميَّة، فجعل على إحدى وجهيها: «بسم الله. لا إله إلَّا الله وحده لا إله غيره»، وعلى الوجه الآخر: «هذا الدرهم ضُرب في الأندلُس سنة...». ولمَّا حلَّ الربيع من السنة سالِفة الذِكر، باشر مُوسى بن نُصير وطارق بن زياد تنفيذ خطَّتهما القاضية بِالسيطرة على الأقاليم الأيبيريَّة الشماليَّة المُمتدَّة من سرقسطة، في إقليم أرغون شرقًا، حتَّى ساحل جُليقية، على المُحيط الأطلسي غربًا، بِهدف إقامة حاجز دفاعي يُؤمِّن مُنجزات المُسلمين في جنوب ووسط البلاد، ولا يتم ذلك إلَّا بِالقضاء على الجماعات القوطيَّة اللاجئة إلى تلك الأقاليم، وبخاصَّة أنَّ المُسلمين كانوا يعلمون أنها المأوى الوحيد الذي التجأ إليه مُعظم الفارّين، لِذا كان مُوسى شديد الحرص على اقتحام تلك المنطقة وفتحها. كانت مدينة سرقسطة أوَّل هدفٍ لِلحملة، فاقتربت منها القُوَّات الإسلاميَّة، على حين غفلة من أهلها، ففوجئ هؤلاء بالمُسلمين يُعسكرون أمام مدينتهم، ودبَّ الذُعر بينهم، وبعث إليهم مُوسى بن نُصير من أمَّنهم وأعطاهم عهده، فطاب نُفوسهم، وفتحوا أبواب مدينتهم لِلمُسلمين. وجالت القُوَّات الإسلاميَّة في نواحي إقليم سرقسطة، مثل وشقة ولاردة وطرَّكونة وبرشلونة، وأقام مُوسى مُدَّةً في المدينة نظَّم خلالها أوضاعها الإداريَّة، وأنشأ فيها مسجدًا خطَّهُ التابعيّ حنش بن عبد الله الصنعاني، مُهندس المساجد في الغرب الإسلامي. وبِسيطرة المُسلمين على إقليم سرقسطة طُويت صفحة التاريخ القوطي في الأندلُس، ولم يبق أمامهم سوى فتح إقليم جُليقية المُمتد إلى الغرب من سرقسطة حتَّى المُحيط الأطلسي، وهو الإقليم الذي اشتمل على أشتوريس في الوسط وكنتبرية في الشرق. وفي الوقت الذي كان فيه مُوسى بن نُصير يتأهَّب لِلزحف نحو ذلك الإقليم، عاد إليه مُغيث الرومي قادمًا من دمشق، وحمل معهُ أمرًا من الخليفة إلى كُلٍ من مُوسى وطارق بِالتوقُّف فورًا عن الفُتُوح والمُثُول بين يديه، ويبدو أنَّ الخليفة شعر أنَّهُما تجاوزا حدَّ التوسُّع المُتفق عليه. رأى مُوسى بن نُصير أنَّ هذا الاستدعاء جاء في وقتٍ غير مُناسب، لِأنَّ تعقُّب القوط لم ينتهِ، وكان حريصًا على فتح جُليقية والقضاء نهائيًّا على المُقاومة القوطيَّة، كما أنَّ مُغادرة المنطقة كانت تعني المُغامرة بِمُستقبل المُسلمين في الأندلُس كُلَّها؛ لِذلك تباطأ في الاستجابة لِأوامر الخليفة، وتواطأ مع مبعوثه لِيُمهله أيَّامًا حتَّى ينتهي من تنفيذ خطَّته والدُخُول إلى إقليم جُليقية، مُقابل أن يكون شريكه في أجر فتحها، ويهبه موضعًا في مدينة قُرطُبة بِجميع أرضه، فوافقهُ مُغيث ورافقهُ في حملته على هذا الإقليم. الواقع أنَّ هذا الاتفاق مع مبعوث الخليفة دفع بِمُوسى أن ينشط في حملته هذه، ويُسرع من دون أن يُضيِّع وقتًا في حصار المُدن أو التحايُل على من يُعصي من سُكَّانها كما كان الشأن من قبل، ما طبع حملته بِطابع الشدَّة والقسوة والعُنف المقرون بِالتدمير، وهو ما أشارت إليه الروايات الإسلاميَّة، الأمر الذي أدخل الجزع والفزع في قُلُوب السُكَّان، وهُم الذين لم يكونوا أصلًا بِحاجةٍ إلى من يزيدهم ذُعرًا ورُعبًا، فتسارع أعيانهم وكبارهم إلى الطاعة وطلب الأمان والصُلح.

غادر مُوسى بن نُصير مدينة سرقسطة مُتوجهًا إلى إقليم جُليقية لِفتحه، واصطحب معهُ طارق بن زياد. وسلك المُسلمون طريقًا يمتد من الضفَّة الجنوبيَّة - اليُمنى - لِنهر إبرة والسُفُوح الجنوبيَّة لِجبال كنتبرية، ويمُر بِالعديد من المُدن مثل هارد وبرڤييسكا وأمالية وليون، وينتهي عند مدينة أستورقة. وسار طارق بن زياد على رأس قسمٍ من الجيش كطليعة، فتقدَّم باتجاه مدينة أماية وفتحها ثُمَّ فتح مدينة بارد، ودخل القسم الجنوبي من إقليم أشتوريس وفتح مدينته الرئيسيَّة أستورقة، ثُمَّ اقتفى مُوسى أثره لِيُؤمِّن ما فتحهُ حتَّى وافاه في مدينة أستورقة، حسب الخطَّة الموضوعة سابقًا، إذ أشارت الروايات الإسلاميَّة إلى نبأ تلاقيهما فيها، ومنها سارا سويًّا لِإتمام فتح أشتوريس وجُليقية، فاخترقا جبال كنتبرية من إحدى ممرَّاتها ودخلا شمالي أشتوريس، وسارا بِمُحاذاة مجرى نهر نالون واقتحما المنطقة، ثُمَّ تقدَّما نحو الشمال حتَّى أدركا حصن لوغو، الواقع شمالي مدينة أوبيط، وفتحاه، وفرَّت حاميته إلى مكانٍ جبليٍّ بِأقصى شمالي أشتوريس هو صخرة بُلاي، الواقع في جبل أوسبة الوعر في سلسلة جبال كنتبرية، وفي أعلى هذه الصخرة توجد مغارة أو كهف «كوڤا دونگا». أقام مُوسى بن نُصير عدَّة أيَّامٍ في حصن لوغو، قبل أن يستأنف حملته لِفتح ما تبقَّى من الشمال الأيبيري في أقصر وقتٍ مُمكن، بِفعل أنَّهُ كان عليه أن يستجيب لِنداء الخليفة. لِذلك استقرَّ الرأي على أن يُرسل سريَّة لِتعقُّب الفارِّين إلى صخرة بُلاي في شرقيّ أشتوريس، ثُمَّ تُواصل التوغُّل في هذا الإقليم وإلى ما يليه شرقًا في المنطقة الشماليَّة لِجبال كنتبرية، ثُمَّ تنحدر إلى الثغر الأعلى لِتوطيد أقدام المُسلمين والقضاء على أي أثرٍ لِلمُقاومة هُناك، وعيَّن طارق بن زياد على قيادتها، أمَّا هو فكان عليه اقتحام إقليم جُليقية الواقع إلى الغرب من أشتوريس. تقدَّم طارق بن زياد إلى صخرة بُلاي في أقصى شمال أشتوريس وجال هُناك ففتح بلادها ولاذ الأهالي بالصُلح والسلم وبذل الجزية، إلَّا أنَّهُ لم يتمكَّن من فتح الصخرة، غير أنَّهُ فتح مدينة خيخون الأشتوريسيَّة الواقعة على ساحل بحر كنتبرية على المُحيط الأطلسي، ومن هُناك واصل تقدُّمه شرقًا في بلاد البشكنس حتَّى أدرك الثغر الأعلى ثانيةً، ولم يفتح إقليم كنتبرية المُمتد إلى الشرق من إقليم أشتوريس مُباشرةً بِفعل أنَّهُ كان في عجلةٍ من أمره لِيلحق بِمُوسى بن نُصير. وفي تلك الأثناء اقتحم مُوسى بن نُصير جُليقية وأدرك فيها مدينةً تُعرفُ أيضًا باسم «لوغو» وفتحها. وأتاه، وهو فيها، رسولٌ ثانٍ من الخليفة الوليد بن عبد الملك يأمره بِالتوقُّف فورًا عن الفُتُوح والعودة إلى دمشق، بِدون أن يُتيح لهُ فُرصة فتح ما تبقَّى من إقليم جُليقية، وبخاصَّةً قسمه الجنوبي المحصور بين نهريّ مينو شمالًا ودويرة جنوبًا.

عودة قادة الفتح إلى دمشق :

استجاب مُوسى بن نُصير لِطلب الخليفة، فغادر مسرح العمليَّات في الشمال، بعد أن وضع فيها حامياتٍ عسكريَّة، وانصرف عائدًا إلى الجنوب، فدخل طُليطلة حيثُ أجرى فيها بعض الترتيبات الإداريَّة ثُمَّ غادرها إلى قُرطُبة فإشبيلية، التي اتخذها عاصمة ولاية الأندلُس التليدة، وعيَّن ابنه عبد العزيز واليًا عليها طيلة مُدَّة غيابه، وأمرهُ بِمُتابعة الجهاد لِتوطيد الفتح، وترك معهُ جيشًا ونفرًا من أنجاد المُسلمين ووُجوههم منهم حبيب بن أبي عُبيدة الفهري حفيد عقبة بن نافع. ترك مُوسى بن نُصير الأندلُس في أواخر سنة 95هـ المُوافقة لِسنة 714م، واتجه إلى إفريقية ومعهُ طارق بن زياد ومُغيث الرومي والغنائم والسبي، فوصل إلى قصر الماء على بُعد ميلٍ من القيروان في 10 ذو الحجَّة 95هـ المُوافق فيه 25 آب (أغسطس) 714م، ثُمَّ استخلف ابنه مروان على طنجة وابنه عبد الله على القيروان وسار إلى المشرق في أوَّل سنة 96هـ المُوافق فيه شهر أيلول (سپتمبر) سنة 714م في حاشيةٍ عظيمةٍ وسبيٍ غفير وغنائم كثيرة، فوصل إلى الفسطاط يوم الخميس في 25 ربيع الأوَّل المُوافق فيه 9 كانون الأوَّل (ديسمبر)، وتابع سيره حتَّى وصل طبريَّا بِفلسطين حيثُ وافاه رسولٌ من وليّ العهد سُليمان بن عبد الملك يطلب إليه أن يتريَّث في المسير حتَّى يكون قُدومه وسُليمان خليفة، لأنَّ الخليفة الوليد وقع في مرض الموت وأصبح أجله قاب قوسين أو أدنى، فلو دخل قادة الفتح دمشق وسُليمانُ خليفة، ستؤول إليه الغنائم وشرف الفتح، لكنَّ موسى بن نُصير رفض ذلك وتابع سيره حتَّى دخل دمشق واجتمع بِالوليد في مرضه وقدَّم لهُ تقريرًا مُفصلًا عن إنجازاته بِالإضافة إلى الأخماس والغنائم، وأقام عندهُ حتَّى تُوفي الوليد في شهر جُمادى الآخرة سنة 96هـ المُوافق فيه شهر شُباط (فبراير) سنة 715م. وما أن خلفه أخوه سُليمان حتَّى قرَّر مُحاسبة موسى بن نُصير عن ما اعتبرهُ إساءةً له عندما رُفض طلبه في طبريَّا. فاتهمهُ باختلاس الأموال، وقضى عليه بِردِّها، وجرَّدهُ من ألقابه، ووضعهُ في الإقامة الجبريَّة، ومال إلى التخلُّص منه لولا تدخُّل عُمر بن عبدُ العزيز وتشفُّعه لِمُوسى بن نُصير وسائر القادة، وكذلك فعل عدَّة مُقربين من الخليفة مُذكرين إيَّاه بالتضحيات التي قدَّمها هؤلاء إلى الإسلام والمُسلمين، فتراجع الخليفة عن قراره وعفا عن مُوسى بن نُصير وضمَّهُ إلى مُستشاريه، واصطحبهُ معهُ إلى الحج في سنة 97هـ المُوافقة لِسنة 716م، وتُوفي في المدينة المُنوَّرة وقيل في وادي القُرى. أمَّا طارق بن زياد فقد انقطعت أخباره إثر وصوله إلى الشَّام، واضطربت أقوال المُؤرخين في نهايته، غير أنَّ الرَّاجح أنَّهُ لم يُولَّ عملًا بعد ذلك، ويبدو أنَّهُ آثر أن يعيش بعيدًا عن الأضواء، ويُمضي أيَّامه في العبادة والزُهد بعيدًا عن مسرح الشُهرة وضجيج السياسة.

فُتوحات عبدُ العزيز بن مُوسى :

لم يمكث عبد العزيز بن مُوسى طويلًا في إشبيلية، إذ أنَّ مُقتضيات الفُتُوح أجبرته على الخُرُوج لِفتح أقاليم غربيّ الأندلُس والمناطق الواقعة في شرقيّ البلاد وشمالها. فخرج على رأس جيشٍ يُرافقه دليلٌ من رجال يُليان باتجاه الأقاليم الغربيَّة، ففتح يابرة الواقعة بِالقُرب من لشبونة، وشنترين الواقعة على نهر تاجة، وقُلمريَّة قُرب ساحل المُحيط الأطلسي، وأستورقة المُجاورة لِجُليقية، وتوقَّف عند حُدود هذه المُقاطعة الجبليَّة لِينعطف نحو الجنوب حيثُ لا زالت بعض المواقع الهامَّة خارج نطاق السيطرة الإسلاميَّة، ففتح مُدن ريَّة ومالقة وغيرها من القُرى التابعة لها، وسيطر على كامل مُقاطعة ريَّة، وفرَّ مُعظم المُدافعين القوط والإفرنج إلى الجبال للاحتماء بها. وأخضح إلبيرة، وترك فيها حاميةً عسكريَّةً مُشتركةً من المُسلمين واليهود الذين كانوا مُتواجدين فيها، ثُمَّ توجَّه نحو مرسية في الشرق ووطَّد الحُكم الإسلامي فيها وأخضعها رسميًّا لِلإدارة الأُمويَّة. ثُمَّ عمل عبد العزيز بوصيَّة أبيه، فأرسل الغزوات إلى طرَّكونة وجرونة على الشاطئ الشمالي الشرقي، وإلى بنبلونة في الشمال الشرقي، وإلى أربونة على خليج ليون من ساحل إفرنجية الجنوبي. وبِذلك استُكملت عمليَّاتُ الفُتُوح في عهد عبدُ العزيز بن موسى، ولم يبقَ خارج نطاق السيطرة الإسلاميَّة سوى بضعة جُيُوب، وطُويت صفحة العهد القوطي نهائيًّا في البلاد، وافتُتحت صفحة العهد الإسلامي فيها، على أنَّهُ يُلاحظ أنَّ قسمًا كبيرًا من المناطق الأيبيريَّة الشماليَّة لم يستمر خاضعًا لِلمُسلمين لِفترةٍ طويلة بِسبب عجز المُسلمين عن إخضاع المناطق المنيعة التي تمركز فيها بعض القوط والإفرنج الهاربين، فأصبحت نقاط انطلاق الهجمات لِلإستيلاء على ما جاورهم من بلادٍ دخلت في حظيرة دولة الإسلام.


الإبتساماتإخفاء