صلاح الدين الأيوبي
الملك الناصر أبو المظفر صلاح الدين والدنيا يوسف بن أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الدُويني التكريتي (532 - 589 هـ / 1138 - 1193 م)، المشهور بلقب صلاح الدين الأيوبي قائد عسكري أسس الدولة الأيوبية التي وحدت مصر والشام والحجاز وتهامة واليمن في ظل الراية العباسية، بعد أن قضى على الخلافة الفاطمية التي استمرت 262 سنة. قاد صلاح الدين عدّة حملات ومعارك ضد الفرنجة وغيرهم من الصليبيين الأوروبيين في سبيل استعادة الأراضي المقدسة التي كان الصليبيون قد استولوا عليها في أواخر القرن الحادي عشر، وقد تمكن في نهاية المطاف من استعادة معظم أراضي فلسطين ولبنان بما فيها مدينة القدس، بعد أن هزم جيش بيت المقدس هزيمة منكرة في معركة حطين.
ويُعَدّ صلاح الدين الأيوبي المؤسس الفعلي للدولة الأيوبية، وبطلاً من أبطال العروبة مع كونه كردي الأصل. فقد اختاره العاضد آخر الخلفاء الفاطميين للوزارة وقيادة الجيش، ولقبه بالملك الناصر، لأنه نجح في صد الصليبيين عندما هاجموا دمياط. وقد عمل صلاح الدين بعد ذلك على تدعيم النفوذ السني داخل مِصْرَ الفاطمية. وعندما مرض الخليفة الفاطمي العاضد مرض موته، قطع صلاح الدين خطبته، وخطب للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله، وانتهى بذلك أمر الفاطميين سنة (1171م/ 567هـ). وبدأ صلاح الدين حركة الاستقلال بمِصْرَ والتمكين لنفسه من حكمها وتأمينها؛ فشيد القلعة، وأنشأ سور القاهرة، وبدأ تكوين في تكوين الجيش من المِصْرَيين وغير المِصْرَيين، وقضى على الفتن الداخلية وحركات التمرد. فأضحت دولته أعظم الدول الإسلامية في الشرق، واستطاع بعد ستة عشر عامًا من العمل المتواصل استكمال مسيرة الجهاد الإسلامي والانتصار على الصليبيين في معركة حطين (1187م/ 583هـ) واسترداد بيت المقدس.
نسبه ونشأته :
ولد صلاح الدين في تكريت في العراق عام 532 هـ/1138م في ليلة مغادرة والده نجم الدين أيوب قلعة تكريت حينما كان واليًا عليها، ويرجع نسب الأيوبيين إلى أيوب بن شاذي بن مروان من أهل مدينة دوين في أرمينيا، وقد اختلف المؤرخون في نسب العائلة الأيوبية حيث أورد ابن الأثير في تاريخه أن أيوب بن شاذي بن مروان يرجع إلى الأكراد الروادية وهم فخذ من الهذبانية، ويذكر أحمد بن خلكان ما نصه: «قال لي رجل فقيه عارف بما يقول، وهو من أهل دوين، إن على باب دوين قرية يُقال لها "أجدانقان" وجميع أهلها أكراد روادية، وكان شاذي قد أخذ ولديه أسد الدين شيركوه ونجم الدين أيوب وخرج بهما إلى بغداد ومن هناك نزلوا تكريت، ومات شاذي بها وعلى قبره قبة داخل البلد»، وهو ما يؤكده سعيد عبد الفتاح عاشور وجمال الدين الشيال وعبد المنعم ماجد، بينما يرفض بعض ملوك الأيوبيين هذا النسب وقالوا: «إنما نحن عرب، نزلنا عند الأكراد وتزوجنا منهم".» الأيوبيون نفسهم اختلفوا في نسبهم فالملك المعز إسماعيل الأيوبي صاحب اليمن أرجع نسب بني أيوب إلى بني أمية وحين بلغ ذلك الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن أيوب قال: "كذب إسماعيل ما نحن من بني أمية أصلاً"، أما الأيوبيون ملوك دمشق فقد أثبتوا نسبهم إلى بني مرة بن عوف من بطون غطفان وقد أحضر هذا النسب على المعظم عيسى بن أحمد صاحب دمشق وأسمعه ابنه الملك الناصر صلاح الدين داود.
وقد شرح الحسن بن داوود الأيوبي في كتابه "الفوائد الجلية في الفرائد الناصرية" ما قيل عن نسب أجداده وقطع أنهم ليسوا أكرادًا، بل نزلوا عندهم فنسبوا إليهم. وقال: "ولم أرَ أحداً ممن أدركتُه من مشايخ بيتنا يعترف بهذا النسب".
كما أن الحسن بن داوود قد رجَّح في كتابه صحة شجرة النسب التي وضعها الحسن بن غريب، والتي فيها نسبة العائلة إلى أيوب بن شاذي بن مروان بن أبي علي محمد بن عنترة بن الحسن بن علي بن أحمد بن أبي علي بن عبد العزيز بن هُدْبة بن الحُصَين بن الحارث بن سنان بن عمرو بن مُرَّة بن عوف بن أسامة بن بيهس بن الحارث بن عوف بن أبي حارثة بن مرة بن نَشبَة بن غيظ بن مرة بن عوف بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش.
وكان نجم الدين والد صلاح الدين قد انتقل إلى بعلبك حيث أصبح واليًا عليها مدة سبع سنوات وانتقل إلى دمشق، وقضى صلاح الدين طفولته في دمشق حيث أمضى فترة شبابه في بلاط الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي أمير دمشق. إن المصادر حول حياة صلاح الدين خلال هذه الفترة قليلة ومبعثرة، لكن من المعروف أنه عشق دمشق عشقًا شديدًا، وتلقى علومه فيها، وبرع في دراساته، حتى قال عنه بعض معاصريه أنه كان عالمًا بالهندسة الإقليدية والرياضيات المجسطية وعلوم الحساب والشريعة الإسلامية، وتنص بعض المصادر أن صلاح الدين كان أكثر شغفًا بالعلوم الدينية والفقه الإسلامي من العلوم العسكرية خلال أيام دراسته. وبالإضافة إلى ذلك، كان صلاح الدين ملمًا بعلم الأنساب والسير الذاتية وتاريخ العرب والشعر، فحفظ ديوان الحماسة لأبي تمام عن ظهر قلب، أيضًا أحب الخيول العربية المطهمة، وعرف أنقى سلالاتها دمًا.
صلاح الدين الأيوبيّ القائد :
يُعدُّ صلاح الدين الأيوبيّ قائداً عسكريّاً وسياسيّاً مسلماً؛ إذ بدأ رحلته العسكريّة بالانضمام إلى موظفي عمه أسد الدين شيركوه، حيثُ تمَّ تعيينه وزيراً للخليفة الفاطميّ بمصر عام 1169م، ثمَّ قائداً للقوات السوريّة، كما قاد جيش المسلمين في فترة الحروب الصليبيّة، وحقّق أعظم انتصارٍ على الصليبيين في معركة حطين عام 1187م، حيثُ مهّدت هذه المعركة لإعادة الفتح الإسلاميّ لمدينة القدس وغيرها من مدن الأراضي المُقدسة في منطقة الشرق الأوسط، ثمّ خاض صلاح الدين الحملة الصليبيّة الثالثة، ولم يتمكّن من هزيمة الجيوش التي قادها ملك إنجلترا ريتشارد الأول قلب الأسد، ما تسبّب في خسارة جزءٍ كبيرٍ من الأراضي المقدّسة المفتوحة، ورغم ذلك عقد صلاح الدين الأيوبيّ هُدنة مع ريتشارد الأول، تمّ بموجبها استمرار حكم المسلمين لمدينة القدس، ومن الجدير بالذكر أنّ مدة حكمه في مصر تقارب الأربعة وعشرين عاماً، وتسعة عشر عاماً في سوريا.
صلاح الدين الأيوبي المُخَلّص :
عاشت البشرية دائمًا فكرة المُخَلص (المنقذ) الذي يأتي على جناح الصبح، فيحقق آمالها وأحلامها، وينتشلها من بين أنواء الشقاء إلى شاطئ اخضر مشرق تطلع عليه شمس السعادة والطمأنينة والرخاء. ولقد عبّرت الإنسانية عن هذا الحلم الموعود والأمل المنشود في تراثها ونتاجها الأدبي والثقافي، بل وزخرت به أساطيرها القديمة.
والواقع أن المتتبع لفكرة الخلاص والمُخَلّص في التراث الانساني سيجد لها جذورًا ضاربة في التاريخ، فكلما اشتدّت الأزمات اشتدت الحاجة إلى البطل، ونما حس التوقع بمجيئه، وتهيأ الناس لقبوله والانضواء تحت رايته. فحين تكرّرت أطماع الغرب في الشرق من خلال الحركة الصليبية التي أقامت خمس ممالك على جبهة البحر الأبيض المتوسط ودامت نحو قرنين أفرز الإسلام أبطاله النادرين أمثال نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، والملك الظاهر بيبرس، أبطال التاريخ والعقيدة الذين رفعت حياتهم السير الشعبية إلى مستوى الملاحم.
وشاءت الأقدار أن هيأت لصلاح الدين الأيوبي أن يسطع في القرن السادس الهجري سطوعًا باهرًا، وأن تبرز مواهبه وملكاته على النحو الذي يثير الإعجاب والتقدير، وأن يتبوأ بأعماله العظيمة مكانًا بارزًا بين قادة العالم، وصانعي التاريخ، لقد كانت وفاة نور الدين محمود سنة (1174م/ 569هـ) نقطة تحوّل في حياة صلاح الدين؛ إذ أصبحت الوحدة الإسلامية التي بناها نور الدين محمود – هذا البطل العظيم- معرّضة للضياع، ولم يكن هناك من يملأ الفراغ الذي خلا بوفاته، فتقدم صلاح الدين ليكمل المسيرة، ويقوّي البناء، ويعيد الوحدة، وكان الطريق شاقًا لتحقيق هذا الهدف وإعادة الأمل.
فبعض الناس يعتقدون أن معركة حطين كانت نهاية للفرنج في المنطقة، والحقيقة أنها بداية النهاية، إذ استمرت الحروب بعدها قرابة القرن انتهت أخيرًا باقتلاع الممالك الإفرنجية من ساحل الشام وفلسطين، فمعركة حطين لم تحطم ممالك الفرنج ولم تقض عليها نهائيًا، بل أسست بداية جديدة لموازين القوى، وأكدت أن قوة الفرنج يمكن أن تقهر، فقد كانت معركة فاصلة بين حدين، أي أنها ختمت مرحلة التراجع والهزائم وأسست مرحلة الانتصارات والتقدم.
وقد تلا هذه المعركة استعادة العرب مدينة القدس، فقد دخل صلاح الدين بيت المقدس في (12 أكتوبر 1187م) وأظهر من العفو والتسامح مع أهلها ما جعل المؤرخين المسلمين وغير المسلمين يذكرونه بالثناء. فقد ترك صلاح الدين الصليبيون يغادرون المدينة بعد دفع فدية معتدلة بلغت عشرة دنانير للرجل، وخمسة للمرأة، ودينارين للطفل، بل إنه افتدى من ماله الخاص عناصر من أعدائه ممَنْ لم يتمكنوا من دفع الفدية. ويذكر أن صلاح الدين لم يحاول هدم الكنائس بل تركها، كما سمح أيضًا لليهود بالعودة إلى المدينة المقدسة بعد أن طردهم الصليبيون منها.
وفي الحقيقة؛ يأتي موقف صلاح الدين التسامحي ومروءته على النقيض من تلك الفظائع التي ارتكبها الصليبيون حين فتحوا بيت المقدس سنة 1099م، حيث انطلق الصليبيون في شوارع المدينة وفي المساجد يقتلون كل مَنْ يصادفهم من الرجال والنساء والأطفال، فقد قتل هؤلاء الصليبيون الآلاف من المسلمين الأبرياء بغير ذنب، فيذكر المؤرخ وليم الصوري أن بيت المقدس شهد عند دخول الصليبيين مذبحة رهيبة حتى أصبح البلد مخاضه واسعة من دماء المسلمين.
لقد كان صلاح الدين رجل عسكري في العصور الوسطى أَلِفَ رؤية القتلى والجرحى إلا أنه كره رؤية الدماء، ولدينا وثيقة عبارة عن نصائح قدمها لأحد أبنائه فيقول له: "إياك وسفك الدماء فإن الدم لا ينام"، وهذا دليل واضح على أننا أمام شخص يوصف بأنه رحيم ومتحضر في عصر يوصف بالدموية. فعلى الرغم من قوة صلاح الدين وسلطته وانتصاراته التي حققها، والتي جعلت له مكانًا بارزًا بين قادة العالم وصانعي التاريخ، إلا أن سلوكه دائمًا كان لطيفًا، فقد كره الفظاظة والخشونة والقسوة، وكان هادئ الطبع ومتواضع، وتلك الصفة لفتت أنظار معاصريه من المسلمين والصليبين، فلم يترفع عن رجاله ولم ينفصل عنهم وكان يخوض المعارك بنفسه ويحمل الحجارة والرمل لإقامة أسوار تحمي بيت المقدس هو وأبنائه. يقول عنه المستشرق البريطاني ستانلي لين بول: "لقد أجمع الناس على أن صلاح الدين كان نادر المثال في أخلاقه، فهو – بلا شك – طاهر النفس، شجاع، رقيق الطبع، لين الجانب، رحيم الفؤاد، زاهد في الدنيا، مجاهد، ليس فيه كبر، بل فيه بساطة وورع".
لقد كان صلاح الدين رجل سلم وبناء ومحبة، وليس رجل حرب وهدم وضغينة، وبعد كل معركة كان يعي أكثر فأكثر وحشية الحرب وغبائها، ولكن الأحداث التي عاصرها والظروف التي لابسها، كانت تدفع به مضطرًا إلى ساحة القتال، دفاعًا عن الأرض التي امتزج ترابها بدمه، واختلط نسيمها بأنفاسه، وارتسمت طبيعتها في عينيه، فيا ويل الحرب آفة البشرية وعار التاريخ إذا لم تكن دفاعًا عن الذات. ولعل صلاح الدين كان يعاني من جراء ذلك عظم مأساة يعانيها الإنسان حين يريد السلم وتفرض عليه الحرب، وينشد الرحمة، وتطلب منه القسوة، ويسير في الطريق الملوث بالوحل والمخضب بالدم بمشاعر الملائكة وأخلاق القديسين.
إذا كانت جميع الطرق ملآى بالأشواك، فلابد أن نسلك طريقًا شائكة، وإذا فرضت الحرب نفسها، وغدا الشر خبز الحياة اليومي، وحلق شبح الدمار مثل طائر اسطوري رهيب لا يستطيع أحد أن يهرب من تحت جناحيه، فحسب المرء أن يبعد عن قلبه الحقد، لعل زهرة واحدة للحب تتفتح في مستنقع البغضاء، هكذا شاءت الأقدار، بل الأطماع التي دفعت جحافل الفرنجة إلى الشرق، مندفعة مثل سيل لا نهاية له. وإذا كان المعتدون قد غالوا في التخريب وأمعنوا في الغارة الجاهلة، فإن سر صلاح الدين أنه لم يقابل تلك العاصفة الباغية إلا بعفو الكريم وتسامح النبيل، فكان أسوة حسنة ومثلاً يُضرب للناس، وكسب للعرب والإسلام بقلبه أكثر مما كسب لهم بسيفه، وهذا ما جعل تشرشل يقول عنه إنه "من أعظم ملوك الدنيا"، ودفع الكاتب الإنجليزي ريد رهجارد القول بأنه "أعظم رجل على وجه الأرض".
لقد كان صلاح الدين وبحق واحدًا من قادة الإسلام العظام، فقد حافظ على كفاح متساوي ضد جيوش الصليبيين العديدة والمتفوقة لمدة ربع قرن من الزمان، فقد احتل مكانة عظمى في تاريخ العصور الوسطى، ليس فقط للإنجاز العسكري بل أيضًا لإنسانيته، فليس بالدماء تصنع المكانة التاريخية ولكن بالإنجازات ذات البعد الإنساني.
ذلكم صلاح الدين الأيوبي الذي طبقت شهرته الآفاق، فهو الشخصية الأكثر رومانتيكية لعصر الحروب الصليبية، تمكن من غزو الصليبيين في نفوسهم وعقولهم وقلوبهم، وهذا ما لم يحدث بالنسبة لأي قائد صليبي على نحو يكشف لنا تفوق المسلمين في صورة صلاح الدين الذي يكاد يكون الشخصية المسلمة الوحيدة في عصر الحروب الصليبية – إن لم يكن في القرون الوسطى- الذي نُسج بشأنه أسطورة عاشت في العقل الجمعي الأوربي، وأعجب به الصليبيون وصوره فارسًا على خلق ونبل، ولعل السبب الرئيس في تكوين تلك الأسطورة الطابع الإنساني في طبيعته وتمكنه من غزو قلوب أعدائه.
إن العصور الوسطى هي عصور القديسين والأساطير، وتُعَدّ أسطورة صلاح الدين أكثر أساطير القرون الوسطى التي تربط الشرق والغرب ارتباطًا وثيقًا، وما يزال اسم صلاح الدين مجلجلاً في أسماع الغرب حتى اليوم، وذلك دليلاً على أن صلاح الدين لم يمت في 1193م بل ظل أسطورة في عقول أعدائه. كما ظل هذا النمط من القيادة مشرعن في ثقافتنا وفي تاريخنا الاجتماعي، وهو جزء أصيل في المخيال الشعبي ضمن موروث فلكلوري تترابط فيه الحقيقة مع المتخيل والأسطورة.
الإبتساماتإخفاء